السلوك


  

بسم الله الرحمن الرحيم

ليس في الأرض أمة تفتخر أن سلوكها لا يخضع لأي قيم أو مبادئ تؤمن بها، كما أنه ليس في الأرض أمة تخطط لتدمير قواعد السلوك لديها عن عمد، لكن الذي يحدث دائماً هو أن الناس خلال حركتهم اليومية يخضعون لأهوائهم وشهواتهم، وتضغط عليهم مصالحهم، فيجورون على مبادئهم، وتصبح حركتهم اليومية غير منضبطة على الوجه المطلوب بما يؤمنون من مثل وقيم ونظم.

 

الذين يدَّعون أنهم أخلاقيون ومثاليون كُثُر، بل إن كل المتنافسين وفي مختلف المجالات، يتخذون من ادعاء التسامي الخلقي الذي لديهم وسيلة لترجيح كفتهم على كفة منافسيهم، لكن السلوك الفعلي هو المحك الذي يكشف كل الدعاوى الرائفة، ولهذا فلا يكاد يذكر الإيمان في القرآن إلا ويقرن بالعمل ليرتكز في حسّ كل مسلم أن العمل الصالح هو البرهان الحقيقي على صدق الإيمان وحيويته، وقد شدد القرآن الكريم النكير على أولئك الذين تختلف أعمالهم عن أقوالهم حين قال: \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ\" (الصف: 2)، وفي حديث مسلم: \"إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد، فأتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريءº فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار». وهكذا يقال للذي تعلَّم العلم ليُقال هو عالم، والذي أتاه الله المال فتصدق ليُقال هو جواد، ويُفعل بهما ما فُعل بالأول.

 

السلوك هو مجموعة من العاداتº والذي يحدد نوعية سلوك الواحد منا هو نوعية الأعمال والأنشطة الصغيرة التي يقوم بها في كل يوم، وإن عَشر عادات سيئة كافية لنقل أي إنسان من مستوى الإنسان العادي إلى مستوى الإنسان السيئ. كما أن عَشر عادات جيدة كافية لنقل أي إنسان إلى مستوى الإنسان الجيد. هذا يعني أن علينا أن نتعلم كيف نتخلص في كل سنة من بعض العادات السيئة ليحل محلها بعض العادات الحسنةº لنرى أن أوضاعنا قد اختلفت كلياً خلال خمس سنوات.

 

من الطرق الجيدة للتخلص من العادات السيئة أن نربط بين الآلام والعواقب الوخيمة التي يمكن أن تحدث لنا، وبين ما لدينا من عادات سيئةº فالمسلم يربط بين عذاب القبر مثلاً وبين المشي بالنميمة، أو بينه وبين ترك الصلاة، أو الامتناع عن أداء الزكاة، كما يمكن أن يربط المفرط في تناول الطعام بين هذه العادة وبين الأمراض والمشكلات الصحية التي تسببها السمنة، وهكذا... والتفكير والتدبر والنظر إلى المستقبل هو الذي يُغذِّي الحماسة للتغيير واتّقاء سوء العاقبة، من خلال التخلص من الأسباب والمقدمات المؤدية إليها. في زماننا هذا يتراجع الوازع الديني لدى كثير من الناس، وتنفتح شهية الكثيرين نحو تحقيق المزيد من المكاسب، وقد كثر الذين يتغنون بالإنجازات والنجاحات التي لم يحققوها وفق أي قاعدة أخلاقية، ولا في إطار أي تشريع أو قانون، وعلى هؤلاء أن يعلموا أن اللصوص أصحاب إنجازات أيضاً، وأن كل الإنجازات التي تتم خارج إطار المشروعية والنظام هي شكل من أشكال اللصوصية! نحن بحاجة إلى ردم الهوّة بين مبادئنا وسلوكاتنا عن طريق رفع سويّة ما نطلبه من أنفسنا، وعن طريق رفع مستوى الجودة والنوعية لأعمالنا وإنجازاتناº فالمحافظ على صلاة الجماعة يطلب من نفسه الحرص على أن يكون في الصف الأول وفي بداية الصلاة، والذي يدرس كل يوم ساعتين يُلزم نفسه بأن يقرأ كل يوم ثلاث ساعات، والذي تعود إخراج الزكاة فحسب، يحمل نفسه على بذل شيء من الصدقة، وهكذا... ولا ريب أن مثل هذا الارتقاء ليس سهلاً على النفس، ولكن مَن قال: إن القيام بالتكاليف والواجبات هو شيء محبب إلى النفوس؟!

 

 

التغيير دائماً ينطوي على قدر من المشقة، ولكن حلاوة النصر على النفس، ونشوة اجتياز العقبات تُنسي المرء طعم المعاناة، وهو ينتظر إلى جانب ذلك من الله حُسنَ العاقبة.

 

بقي أن أقول: إن أمة الإسلام بأمسّ الحاجة اليوم إلى منارات تضيء الطريق، ويتخذ الناس منها أسوة وقدوة في مختلف مجالات الحياة. ومن الواضح أن من العسير أن يجعل المرء من نفسه قدوة في جميع شأنه، فليحاول الواحد منا أن يكون قدوة في جانب من جوانب شخصيته ومسيرة حياته، كأن يقدم نموذجاً راقياً في بِرِّ والديه، أو خدمة إخوانه، أو المحافظة على الوقت، أو إتقان التخصص، أو التفوق الدراسي.. وإذا فعل ذلك 5% من المسلمين فإن تغييرات جذرية ستطرأ على حياة أمة الإسلام، وسنلمس آنذاك نهضة اجتماعية هي أعظم مما نتصور، فهل من مُجَرِّب؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply