أين اختفت درجات المئذنة ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ترعرعتُ في بلدٍ, مسلمٍ, يستقبل رمضان مبتسماً. وكانت حلاوة نمط الحياة في هذا الشهر تجذب الأولاد لتقليد الكبار ومحاولة الصيام مثلهم. وكان ذاك المجتمع البسيط يدرك أن صوم رمضان إنما هو مطلوبٌ من الكبار، فطوَّر أفراده مفهوماً سمّوه \"صوم درجات المئذنة\". حيث يسمحون للطفل الصغير المتشجع للصيام أن يصوم من الصباح إلى الظهر، أو من الظهر للعصر.. وهكذا. أو أن يصوم نصف أول يوم وآخر يوم، في نوعٍ, من صيامٍ, متدرجٍ, يعوّدُ الأطفال على الصبر والاحتمال. ورأيت في ذلك ذكاء وحكمة بالغة. فالأهل من ناحية يستجيبون للهفة الأولاد الصغار واندفاعهم لرمضان ولا يخمدونها بل يوجهونها، وذلك باستعمال مفهوم التدرج الذي أشار إليه الإسلام، حتى إذا صار الولد وصارت البنت قرب البلوغ كانا مهيئين بشكل طبيعي لأداء الفريضة.

 

  تذكرت ذلك وأنا أرى اليوم ظاهرةً مُقلقةً تتمثل في التبكير في صوم الأولاد. حيث يوجد من يحثّ أولاده على صيام رمضان في سن السادسة أو السابعة. والحقيقة أن في الصيام مشقةً تتحدى تحمّل الكبير أحيانا، ولاتنا سب الصغير في مثل هذه السن. وقياس الصيام على الصلاة ليس فقط باطلاً من جهة الشريعة (كما يقول الفقهاء) بل إنه أيضا باطلٌ من جهة العقل. فالصلاة عملٌ عباديٌ سهلٌ، والصعوبة فيه ليست في أداء الحركات وإنما في بناء العادة والساعة الداخلية التي تنبه إلى أوقاته. فكان فيه الأمر بالصلاة في السابعة ثم التشديد في ذلك في العاشرة.. ولو كان يلزم لصوم رمضان ما يلزم للصلاة ما تخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التوجيه لذلك.

 

والذي يقلق في الأمر توجه كثير من الناس إلى أمر أولادهم الصغار بالصيام (أمراً بين الترغيب والترهيب) مستغلين اندفاع الأولاد الفطري نحو ذلك. ولا أجد تفسيرا لهذه الظاهرة غير توهّم الأهل أن التبكير في الصوم يساعد الأطفال على الالتزام فيه عند الكبر، في زمنٍ, طغى فيه التفلت من الإسلام والاستخفاف بأوامره. ولكني أعتقد أنهم مخطئون في تلك النظرة، وما يفعلونه أقرب لأن يصدّ الأطفال عن هذا بدلا من أن يرغَّبهم فيه.

 

إن اندفاع الأولاد نحو الصيام أمرٌ مفهوم ومحمود، ولكنه لا يقتضي الاستجابة بأن نطلب منهم الصوم بشكل كامل. ذلك أن ما يميز تفكير الطفل أنه لا يستطيع أخذ كل المستتبعات بعين الاعتبار لما يريده ويرغب فيه. ولذلك فإنني لا أرى في التبكير في الصوم إلا تنطّعَ هالكٍ, نَهت عنه الشريعة الغراء، وتجاهلاً لحاجات الطفولة ولمدى احتمالها.

 

  وما أدري ماذا نُجيب حين تُحيلنا إدارة المدرسة إلى السلطات المسؤولة بتهمة تعذيب الأطفال، كما حصل في بعض الحالات. وإننا إذا كنا نملك جوابا مقنعاً بشأن ولدٍ, نضج واقترب من سن البلوغ، فما أحسب أننا نملك أي جواب بشأن طفلةٍ, صغيرة في السادسة من عمرها، أغمي عليها في المدرسة نتيجة الجوع والتعب من الصيام وهي ترفض الأكل خوفا من عقوبة الأهل. والمؤلم في الأمر أن هذه الأسرة لم تكن لتعاقب الطفلة المسكينة على إفطارها عقابا جسديا أو توبيخا صريحا، وإنما تكون العقوبة في حرمانها من كلمات التشجيع والفخر بأنها صامت مثل الكبار.

 

إن الشريعة الإسلامية هي شريعة التخفيف والرحمة ورفع الإصر والأغلال، وليست شريعةً تجعل العبادات \"عقوبةً\" للجسد.ومرةً أخرى أعود للخبرة الاجتماعية للمسلمين، وأحيي الذكاء الفطري في مسألة تدرج الصوم، وأتفكر كيف انحدرنا من أعالي مآذننا، وكيف نعود فنبني هذه الشوامخ، وما يوصل إليها من درجات.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply