إن سلوك الإنسان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفكره وعقيدته، فالسلوك لا ينفصل عن دائرة الفكر والاعتقاد، والسلوك إذا دخل دائرة التكرار والاعتياد وصار ملازمًا لصاحبه أصبح تربية وسمتًا وهيئة.
ومن أخلاق المسلم الملتزم الانضباط، بل هو من أهم أخلاقه، والانضباط خلقٌ من أخلاق الإسلام العظيم، وهو خلق يتناول حياة المسلم كافة وكل ما يقوم به من عمل، ولكننا نتناول هنا نوعًا واحدًا من الانضباط، ألا وهو انضباط المسلم في مواعيده وعمله المنوط به، وهذا الانضباط ينبع من اعتبارات عديدة منها:
أولاً: استشعار مراقبة الله:
فالمؤمن يوقن أن الله يسمعه ويراه فهو، دائمًا متيقظ الحس، مرهف الشعور، بعيدًا عن الغفلة والاسترخاء، كما قال الإمام البنا: فوصفه \"أستطيع أن أتصور المجاهد شخصًا قد أعدَّ عدته، وأخذ أهبته، وملك الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدًا، إن دُعي أجاب، أو نُودي لبَّى، غدوه ورواحه، حديثه وكلامه، وجده ولعبه، لا يتعدى الميدان الذي أعدَّ نفسه له، لا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه وترى في بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما يعتمل في قلبه من ألمٍ, دفين، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهِمّة عالية وغاية بعيدة.
أما المجاهد الذي ينام ملء جفنيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويضحك ملء شقيه، ويقضي وقته لاهيًا ماجنًا فهيهات أن يكون من الفائزين أو يُكتب في عِداد المجاهدين\".
ثانيًا: إحساس المؤمن بثِقل التبعة وعِظم المسئولية:
فهو حريصٌ على الإنجاز وتحقيق الأهداف، فهو يعلم أن (الواجبات أكثر من الأوقات)، وأن المرء يخرج من الدنيا ولما يقض ما أمره الله به ويوم القيامة يقول المرء \" يَا لَيتَنِي قَدَّمتُ لِحَيَاتِي \" (الفجر: 24).
وما من ميتٍ, يموت إلا ندم إن كان محسنًا أن لو كان ازداد، وإن كان مسيئًا أن لو كان قد تاب، فالوقت هو الحياة، والحرص على وقت الآخرين هو حرص على حياتهم وتقدير للتبعة والمسئولية، ويرحم الله مرشدنا وأستاذنا مصطفى مشهور يوم أن قدِم من المطار آتيًا من أوروبا على موعدٍ, كان قد اتفق عليه قبل سفره بشهر، فجاء ولم يجد أحدًا فقد ظن الشباب أنه قد تأخر ولن يأتي من خارج البلاد من أجل موعدٍ, محلي بينهم، وليس بغريبٍ, على مَن كان قدوته رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الذي واعده أعرابي يومًا فذهب النبي- صلى الله عليه وسلم - في الموعد المحدد، وجاء الأعرابي من سفره متأخرًا فقال - صلى الله عليه وسلم - له: \"إني أنتظرك هنا منذ ثلاث\".
ثالثًا: الوفاء بالعهد والوعد
يحرص المؤمن على الحضور في موعده والوفاء به، فهو خلق أصيل أمر به القرآن \" يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ \" (المائدة: 1)، وقال \" وَأَوفُوا بِالعَهدِ \" (الإسراء: 34)، والمؤمن ينأى بنفسه عن أخلاق المنافقين، فقد جعل النبي- صلى الله عليه وسلم - آية المنافق ثلاث: \"إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان\"، والمؤمن إذا قال صدق، وإذا وعد وفَّى، وإذا التزم أدَََََّى.
رابعًا: القدوة وأثرها:
يُدرك المؤمن أن التفريط في الانضباط وعدم الحضور في الموعد وعدم الاكتراث بالأوقات يوهن عزائمَ من معه، ويفقده المصداقية أمام الآخرين، ويهدم معنى القدوة في نفوسهم ويعودهم على عدم احترام قيمة الوقت.. وبهذا يُعتبر صاحب هذا الصنيع نموذجًا سلبيًا خلاف ما يدعو إليه من الانضباط والالتزام.
خامسًا: السلوك والمعايشة:
يدرك المؤمن أن المؤمن مرآة أخيه، وأن حياة الداعية أشبه بالمرايا العاكسة التي تعكس ما حولها من إيجابيات وسلبيات، فإذا فرط في موعده ولم ينضبط إداريًا في عمله نقلت مرايا المعايشة هذا السلوك بين مجتمع الدعاة، وأضحى التفريط وعدم الالتزام سمتًا وحالاً وسلوكًا.
سادسًا: منهاج التربية في الإسلام:
إن الناظر في منهاج التربية في الإسلام يرى أن الله قد فرض على عباده فرائض بالليل لا يقبلها بالنهار وأخرى بالنهار لا يقبلها بالليل، وجعل الصلاة على المؤمنين كتابًا موقوتًا وجعل من شروط صحتها دخولَ الوقت، ومن أسباب ضياعها وقضائها خروج الوقت.
وجعل أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، وجعل الأجر الكبير لمن بكَّر وتقدَّم، ودعا الناسَ إلى الاستهام حول الصف الأول إن استووا في الحضور، ولما تأخَّر أناسٌ عن تكبيرة الإحرام وباتوا مسبوقين يستكملون صلاتهم بعد الناس، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - محذرًا: \"ما بال أقوامٍ, يتأخرون حتى يأخرهم الله يوم القيامة\".
ليكون تحذيرًا لمَن يتأخرون، مع أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة على أرجح الأقوال، فما بال الذين يتأخرون عن واجبات العمل للإسلام وهو فريضة شرعية وضرورة بشرية.
سابعًا: طبيعة المعركة والوعي بحقيقة الطريق:
يعيش المؤمن طبيعة المعركة وحقيقة الطريق، وهو يتلو كتاب الله، فيجد عدو الله فرعون يتوجه إلى موسى قائلاً: \" فَاجعَل بَينَنَا وَبَينَكَ مَوعِدًا لا نُخلِفُهُ نَحنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى \" (طه: 58)، فعدو الله يدعو إلى مواجهة محددة الموعد، ولا تحتمل التخلف، فيرد موسى الواثق بربه: \" قَالَ مَوعِدُكُم يَومُ الزِّينَةِ وَأَن يُحشَرَ النَّاسُ ضُحًى\" (طه: 59)، فإذا احتدمت المواجهة سارع الكفرة إلى التجمع والمناداة وإلى الإنضباط قائلين: \" فَأَجمِعُوا كَيدَكُم ثُمَّ ائتُوا صَفًّا وَقَد أَفلَحَ اليَومَ مَن استَعلَى \" (طه: 64)، فلا مكان في المواجهة ومعركة الحق لمن ينسى موعده أو ينام عن واجبه.
وفي ختام موقعة أحد وقف أبو سفيان قائلاً: \"موعدنا في قابل\" أي العام المقبل، وبعد عام خرج النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة بدر \"بدر الموعد\"، وانتظر أبا سفيان، ولكن أبا سفيان نكص عن موعده، وعاد أدراجه إلى مكة وخشي المواجهة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد