التربية وانتهاز المناسبات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

هاهنا نادرة طريفة روتها كتب الأدب... هي عبارة عن محاورة بين أب وابن عاقّ... تخذ فيها الابن فصاحته وحسن بيانه سبيلا لتبكيت أبيه والزراية عليه والتنقص من قدره! واستل من كلماته سيوفا ومن حروفه خناجر ما فتئ يطعن بها جنب أبيه المسكين.. ومع كل طعنة كان الأب يتوجع ويتألم ويثور ويقذف حمما من لفظه فترتد عليه كلمات ابنه أحد نصالا وأوغل في الإثم والخطيئة! كانت محاورة تدعو إلى الضحك والبكاء معا... تضحكك بعجيب بيانها، وغريب إجاباتها، وبراعة بلاغتها. وتبكيك بفاحش أخلاقها، وبذيء مجازاة الابن لأبيه.. وبأنها قد تكون بشكل أو بآخر صورة لواقع نعيشه. روى الطوفيّ في الصعقة الغضبية أن مرة بن حنظلة التميميّ كان من فصحاء العرب وبلغائهم، وكان قد عتا على أبيه وعصى أمره، وكان مولعا بالرد عليه وتسفيهه، وكان أبوه له قاليا ـ أي مبغضا ـ، فقال له أبوه يوما وقد عتب عليه: إنك مر يامرة. فقال: أعجبتني حلاوتك يا حنظلة! قال الأب: إنك لخبيث كاسمك، فقال مرة: أخبث مني من سماني! قال الأب: ما أراك من الناس، فقال الابن: أجل، تشبهني بمن ولدني! قال الأب: قد يخرج الله الخبيث من الطيـب، فقال: كذلك أنت من أبيك! قال الأب: قد حرصت على صلاحك جهدي، فقال: ما أتيت إلا من عجزك! قال: ما هذا بأول كفرك النعم، قال: من أشبه أباه فما ظلم! قال الأب: لأدعونّ الله عليك فلعله أن يخزيك، فقال الابن: تدعو إذن عالما بك. قال: لا يعلم مني إلا خيرا، قال: مادح نفسه يقرئك السلام! قال: إنك ما علمتُ للئيم، قال: إنما ورثته عنك! قال الأب: لقد كنت مشؤوما على إخوتك إذ أفنيتهم، قال: ما أكثر عمومتي يا مبارك! قال: ولد الناس ولدا وولدت عدوا، قـال: الأشياء قروض، والقلوب تتجـازى، ومن يزرع شوكا لا يجن عنبا. قال الأب: أراحني الله منك، فقال الابن: قد فعل إن أحببت. قال: وكيف لي بذلك؟ قـال: تخنق نفسك وتستريح! قال الأب: سود الله وجهك، قال: بيض الله عينيك! قال الأب: قم من بين يدي، فقال الابن: على أن تؤمنني لقاءك! قال: قبح الله أما ولدتك، قال: إذ لقحت منك! قـال: أنت بأمك أشبه، قال: ما كانت بشر من أم زوجها! قال الأب: والله إن قمت إليك لأبطشنّ بك، قال: ما تراك أبطش مني! قال: وإن فعلتُ تفعل؟ قال: وأنت في شك من ذلك؟! فسكت وتركه!! [الصعقة الغضبية 311، 312].

هذه هي القصة المضحكة المبكية!! وعندما قرأتها... سرحت بذهني طويلا... وفكرت: كم من أب شكا من ولده مثل ما شكا حنظلة أو أشد؟! كم من أب جرعه ولده العلقم من العقوق وسوء الأخلاق؟ ألم يقتل أبناء آباءهم؟ ألم يسب أبناء آباءهم؟ ألم يقذف أبناء آباءهم على الأرصفة والطرقات؟ ألم ترتفع أياد لئيمة لتهوي بصفعة مرة على وجه أب كليم أو خد أم باكية؟ بلى كل ذلك حصل ويحصل... ولقد قرأت ذات يوم خبر عجوز مسكينة ضجرت منها زوج ابنها العاق، فما زالت به حتى صيرها كالخادمة، وذات عشية خرجوا إلى البحر يتنزهون، وعلى الشاطئ الممتد ترك الابن أمه على أن يعود إليها بعد ربع ساعة وترك بيديها وريقة صغيرة... فامتدت ربع الساعة حتى صارت أربع ساعات والعجوز قابعة لا تريم، وأعين الناس ترمقها متعجبة! وكلما سألها سائل ذكرت له أن ولدها سيؤوب ولعل حابسا حبسه، حتى إذا أوشك الليل أن يلفظ أنفاسه، وهم آخر جالس أن يغادر دنا من العجوز فلمح الورقة فاستلها فإذا فيها: من لقي هذه العجوز فليوصلها إلى دار العجزة!!

ومن قديم ترنّم أب ملتاع فقال يشكو عقوق ولده:

غذوتك مولودا ومنتك يافعا *** تعل بما أجري عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت *** لسقمك إلا ساهرا أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي *** طرقت به دوني فعيناني تهمل

فلما بلغت السن والغاية التي *** إليها رجا ما كنت فيك أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة *** كأنك أنت المنعم المتفضل!

وسميتني باسم المفند رأيه *** وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي *** فعلت كما الجار المجاور يفعل

حياتك هم ثم موتك فجعة *** وخيرك مزويّ وشرك مقبلُ [رسالة في بر الوالدين للسبكي: 24]

هكذا بكى كثير من الآباء من قسوة أبنائهم... وبمثل ذلك بكى كثير من المعلمين والمربين والدعاة غفلة طلابهم ومدعويهم وانحرافهم من بعد أن ظنوا فيهم الخير، وساءهم أن يكون هؤلاء الذين صرفوا جزءا من أعمارهم في تربيتهم في صفوف الدراسة وحلقات التحفيظ وبرامج المراكز والمكتبات ساءهم أن يكونوا مُثُل سوء، ونماذج غواية وضلالة! وبأشد من كل ذلك بكى كثير منا نفسه إذ رآها لا تطاوعه على الطاعة، ولا تنقاد معه إلى الهدى، ولا تفتأ تهوي به في أودية الرذيلة والعصيان وهو الذي يجاهد ويغالب رجاء أن يلحق بركب الصالحين!! أو يتعلق بأذيالهم على الأقل!! وفي خضم ذلك كله ينتصب سؤال كبير، تمتد قامته، وتتضخم ذاته حتى تسد المنافذ كلها.. : لماذا؟!!! لماذا يعقنا أبناؤنا؟ لماذا يلتوي علينا طلابنا؟ لماذا تتمرد علينا أنفسنا التي نريدها سوقها إلى طريق الخير؟ أسئلة متضخمة تضخم الهمّ الذي يسكن قلوبنا، ويتغلغل في جوارحنا كلما رابنا شيء من أمر أبنائنا أو طلابنا أو حتى أنفسنا. ولست أدعي أنني أملك الجواب الكامل... ولا يدعي أحد من البشر أنه يملك الحلول السحرية... لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء. وحده هو القادر أن يقيمها على الجادة، ويملأها بالهدى. ووحده هو القادر إذا صدق العبد في دعائه ورجائه أن يجعلها بحيث يحب المرء طاعة ورشادا وإقبالا وبرا. ولكنني في هذا المقام أنبه لحقيقة كبرى هي سبب عظيم من أسباب هذه النكسات والترديات بعد قدر الله وأمره. إنها الفوضى التربوية وعدم التخطيط والتنظيم... أن نترك للأحداث والبيئات والمجتمعات أن تربّي أبناءنا وطلابنا وأنفسنا. أن نترك للظروف أن تتولى مهمة التوجيه والإرشاد. أن نترك للعلاقات التي تنشأ صدفة، والصداقاتِ التي تنبت بشكل عشوائي كما ينبت الطحلب، والمواقفِ التي تفرض علينا بغير إرادة.. أن نترك لذلك كله صياغة شخصية أبنائنا وطلابنا وشخصياتنا نحن.. أن نفعل ذلك معناه أننا نفتح الباب واسعا لتلك الصور المحزنة، والمواقف الأليمة. ومعناه أننا نقول لصور العقوق والتردّي والضياع: هلمي على الرحب والسعة!! إن خطوتنا الأولى نحو العلاج ـ بعد أن ندعو الله ونصدق في دعائنا ـ أن نتعلم كيف نخطط لتربية أنفسنا وطلابنا وأبنائنا. أن نتعلم كيف نفكر ونقدر ونتأمل ونتدبر لنصنع نحن الفرص، ونوجد نحن الأحداث، ونبني نحن الصلات التي تخدمنا فيما نريد. بمثل هذا التفكير الذي لا يحتاج إلى كثير علم و لا عظيم اطلاع يمكننا بإذن الله تدارك الكثير من الخلل.

وأنا ألحّ هنا على صورة واحدة من صور هذا التخطيط، هي بالغة الأثر، عظيمة الوقع... إنها التربية بالموقف.. إنها انتهاز الفرص أو حتى اصطناع الفرص من أجل إيجاد مواقف مؤثرة تنقل عبرها رسالتك التربوية لنفسك.. لابنك... لتلميذك. ولقد كان القرآن الكريم حفيّا بهذا النوع من التخطيط التربويّ، فكان يستغل الأحداث عميقة الأثر ليغرس من خلالها المعاني الإيمانية والتربوية المرادة... في بدر تغدو كل الموازين الأرضية في صالح قريش، القوة لهم، والعدد في صالحهم، وميزان القوى يؤيدهم.. حتى إذا ظنّ ضعفة الإيمان ألا سبيل إلى النصر أتى نصر الله من حيث لم يحتسبوا وطوحت القلة المؤمنة بالكثرة الكافرة.. وفي ذلك الموقف الرهيب تأتي التربية بالموقف: ((ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون)).. ألف موعظة مطولة ما كانت لتغرس يقينا كهذا اليقين الذي غرسه سطر واحد من كتاب الله لأنه ارتبط بموقف حيّ مشاهد. وفي أحد يتخلى الرماة عن الأمر النبوي، ويتدافعون وراء الغنائم، فتدور الدائرة عليهم، ويستحر القتل بهم، ويشج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتدخل حلقتا المغفر في وجنتيه، ويقاسي المسلم يومها أعظم البلاء.. وبعيد هذا الموقف العصيب الضخم تتنزل الآيات الكريمة: ((أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير)).. أي قلب مؤمن شهد هذه الواقعة سينسى هذا الدرس.. وأن ما أصابك من سيئة فمن نفسك؟ وفي حنين يجتمع للمسلمين جيش ضخم يبلغ أربعة عشر ألف مقاتل، ويصيب المسلمين الزهو بهذه الكثرة، ويوشكون أن يتكلوا عليها لا على الله، ويقول قائلهم: لن نهزم اليوم من قلة.. وما هي إلا جولة حتى تخلخل صف المسلمين وكادت الهزيمة أن تحيق بهم.. وفي تلك الأثناء، وصور الموقف ما تزال تملأ الأذهان، ودماء الجرحى ما تزال تعلق بثيابهم.. يتنزل الوحي الكريم: ((ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين))! فقل بالله عليك: أي قلب شهد هذا ثم سمع هذا يقدر على أن يغتر بعدد أو عدة؟! وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي ربى هذا الرعيل الفريد من عمالقة الأرض وأبطال الدنيا حفيّا كذلك باغتنام المواقف، وانتهاز الفرص يبث من خلالها وعظه وإرشاده.. روى مسلم عن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بالسوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفتيه فمر بجدي ميت أسك [أي صغير الأذنين] فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ قالوا: والله لو كان حيا كان هذا السكك عيبا فيه فكيف وهو ميت؟ فقال: فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) [مسلم / كتاب الزهد]. وروى الشيخان عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قدم على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - سبيٌ فإذا امرأة من السبي تحلّب ثدياها تسعى، إذ وجدت صبيا لها في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ )) قلنا: لا، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)). [البخاري / كتاب الأدب، مسلم / كتاب التوبة]. وعند البخاريّ عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: كنا جلوسا ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: ((إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا)) [البخاري كتاب مواقيت الصلاة]. فتأمل ـ إن شئت ـ فعل هذه الكلمات النبوية وقد قيلت في هذه المواقف، وعلى هذه الصورة العملية المؤثرة.

 أما السلف فكانوا كذلك أحرص شيء على هذا المذهب التربويّ الفاخر.. فهذا أبو سهل الصعلوكيّ تترنم بجوار نافذته حمامة، فتغلبه الموعظة فيقول:

أنا على سهو وتبكي الحمائم *** وليس لها جرم ومني الجرائم

كذبت لعمر الله لو كنت صادقا *** لما سبقتني بالبكاء الحمائمُ

 

وهذا أبو الدرداء يرى أهل دمشق وقد بالغوا في البنيان ومال بهم الترف، وسرت همهمة الإعجاب بالدنيا فيهم، فوقف خطيبا يقول: يا أهل دمشق ألا تسمعون من أخ لكم ناصح! إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثير ا، ويبنون شديدا، فأصبح جمعهم بورا، وبنيانهم قبورا، وأملهم غرورا. [الرقائق 106] وكان الربيع بن خثيم يحفر له قبرا فينزل فيه ثم يستشعر هول الحساب فإذا غلبه الفزع خرج والناس ينظرون إليه وهو يقول: أكثروا من ذكر هذا الموت الذي لم تذوقوا قبله مثله! [الرقائق 126] وقس على ذلك عشرات الصور والأخبار... إن المواقف التي ينبغي أن تستغل لتربية النفس أو الغير قد تكون زمانا أو مكانا أو حدثا... وهي لا تحتاج منا لأكثر من انتباه وقصد وحرص. ولو وطنّا أنفسنا على هذا المعنى لوجدنا كثيرا مما نمر به صالحا لأن يكون مدخلا لموعظة تربوية مؤثرة. ها نحن قد خرجنا من شهر رمضان... وكم فيه من مواقف تربوية مؤثرة نعظ بها أنفسنا ومن نربيهم.. نشاط النفس للعبادة معناه أن لها قدرة ونشاطا على الطاعة نتجاهله بمجرد أن تنسلخ آخر ليلة من الشهر. تلك القدرة على الكف عن كثير من الشهوات معناها أننا نملك أنفسنا وإرادتنا عندما نريد. حرصنا على تعلم أحكام الصيام معناه أننا يمكن أن نكون طلبة علم نفقه أمر ديننا. تلك الأمطار التي روت أرضنا معناها أن الله يستجيب الدعاء ولو بعد حين، وأنه - سبحانه - لا يرد يدين امتدت إليه صفرا. تلك الجنائز المتتابعة معناها أننا سنلحق يوما ما بالركب فماذا أعددنا؟ وفي العيد عندما يلبس الناس الجديد، ويتناسون العداء العتيد، ويقبلون بوجوه ملؤها البشر وقلوب زينها الصفاء في هذه المواقف ثمت إشارات تربوية بديعة.. حرص الإسلام على حسن المظهر والسمت. جمال المظهر وحده لا يكفي إذا لم يصحبه جمال المخبر، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - مشهور: ((لهذا خير من ملء الأرض من هذا)). اختيار الإنسان فيما يلبس يعكس طبيعة نفسه، ويكشف عن كبره أو تواضعه، عن حبه لدينه ووطنه أو جريه وراء صرعات الشرق والغرب. القلوب تقدر لو أرادت أن تنسى إساءة من أساء، وأن تقابل السيئة بالحسنة. وعندما تصادف حادثا مروعا في الطريق قد تجمع حوله الناس فثمت سيل منداح من وجوه التربية والتأثير.. كم كان هذا الفقيد يحمل من آمال وطموحات ذهبت في غمضة عين فهل من متعظ؟ لو أن الناس يحرصون على معرفة ما ينفعهم حرصهم على معرفة ما جرى في الحادث لكنا بخير كبير! هكذا هو الإنسان لديه فضول للمعرفة فإذا لم يوجهه للنافع اشتغل بالترهات! ترى ماذا لو كنت مكانه على أيّ حال كنت أحب أن أكون؟ وإذا خرجت لتشتري طعامك فوقفت أمام فحم متقد أو فرن ملتهب فثمت الموعظة البالغة.. إذا لم أصبر على هذه النار الضعيفة فكيف أصبر على نار تفوقها بسبعين ضعفا؟ وإذا رأيت قصرا فاخرا شمخ بنيانه، وتراقصت أشجاره، وتلألأت أنواره قفز بك خاطرك إلى جنة عرضها السموات والأرض، وذكرت نفسك أو من معك أن ثمت دارا أشرف من هذه تنتظرنا.. لو بذلنا لها ما تستحق أو بعضا مما تستحق. وإذا مر بك فقير بائس يتكفف لا يجد لقمة يومه أدركت مقدار النعمة التي أنت فيها، وغلبك حياء من الله أن يكون فضلك على كثير من عباده ثم أنت لم تشكره ولم تعبده حق عبادته. وإذا قبضت أجرتك آخر الشهر تذكرت الأجر المدخر عند الله ورجوت أن تناله كاملا غير منقوص، فإذا نقص من أجرك شيء لغياب أو تقصير خشيت أن يكون تقصيرك في جنب الله موجبا لحرمانك شيئا من الثواب! وإذا أغضبت والدك أو أغضبك ولدك ثم أصابك أو أصابه سوء تذكرت وذكرته أن عقوبة العقوق تعجّل في الدنيا.. فلا تعود ولا يعود لمثلها أبدا! وإذا لمحت دمعة أم فلسطينية ثاكلة غلبك الحياء أن تنظر إليها وأنت لا تقدر على نصرتها! وشعرت بعظم الواجب الملقى عليك دعاء أو بذلا أو جهادا. وإذا تبدت أمام عينيك صور البطولة والفداء على أرض فلسطين تفجّر نبع صاخب موار من المعاني والعبر... أمة لا تموت، ولو ذبحها ألف سكين! أمة هؤلاء صغارها لا تهزم، ولو ركعت سنين! ضياء الشمس لا يحجبه أصبع كليل يريد أن يطمس نورها! أولاء هم تراتيل الغد الآتي وبذور زهور النصر وعلينا أن نقف معهم! وهكذا أيها العزيز... يغدو كل موقف حياتيّ صغير أو كبير، دقيق أو جليل، فرصة رائعة لتربية النفس أو الابن أو الصاحب أو التلميذ.. ولكن أين من يتأمل ويتعظ ويعتبر؟!! وبقي ـ يا عباد الله ـ أن يصطنع الإنسان المواقف التي يربي بها نفسه ومن حوله.. ولقد رأينا كيف كان الربيع يحتفر قبرا وينزله ليتذكر هول الموقف. وأنت إذا شكوت من نفسك تفريطا في طاعة فاحملها إلى بيت الله الحرام لترى العشرات من كبار السن يسبحون الله ويعبدونه لا يفترون فتتعظ. وإذا كسل ابنك عن الصلاة بحث عن أخ له ولد نشيط في الطاعة فجمعت بينهما في مكان فإذا بادر الناشط إلى صلاته قلت لولدك: أهكذا ترضى أن يسبقك غيرك!! وهكذا....ولست أريد الاستقصاء، وإنما هو ضرب المثل، واللبيب من استخرج من كل كلمة سطرا، ومن كل سطر صفحة، ومن كل صفحة كتابا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply