ضوابط الترويح في المجتمع المسلم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

يتصف كل مجتمع بخاصية تميزه عن غيره من المجتمعات الأخرى، وتنبع تلك الخاصية من روافد عدة، أهمها وأبرزها الدين الذي يعتنقه ذلك المجتمع، وغالبًا ما تتشكل بناءً عليه العديد من العادات والتقاليد والأعراف التي تتكون على آماد طويلة، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من كيان المجتمع ونسيجه الخاص به، وبالتالي يقوم أفراد المجتمع بممارستها وتبنيها والدفاع عنها.

ولهذا فإنه من الخطأ أن ننظر للمجتمع بمعزل عن هذه الخصوصية التي يتميز بها، كما لا يمكن تجاهلها حين التعامل مع الظواهر الاجتماعية التي يزخر بها. وغالبًا ما يكون لعقيدة المجتمع دور في تحديد خصوصيته، فهناك عملية تفاعل متبادلة بين عقيدة المجتمع، وبين الأنشطة الترويحية التي تمارس فيه.

وتعد الأنشطة الترويحية التي يمارسها أفراد المجتمع ظاهرة اجتماعية تتأثر -كغيرها من الظواهر الاجتماعية الأخرى- بقيم المجتمع العقدية والثقافية، والأفكار، والعادات، والتقاليد، وغالبًا ما تكــون الأنــشـطة الترويـحــية الســائدة في المجتـمع نابعة منها أو متأثرة بها(1).

وعلى ذلك فإن الترويح إذا لم يستمد وسائله من البيئة التي يوجد بها فإنه يصبح عاجزًا عن العطاء، وعاجزًا عن تحقيق الأهداف التي يسعى إليها.. ويقصد بالوسائل هنا:

* الوسائل المادية، مثل الموارد المتاحة من البيئة الطبيعية، ومن الواقع المحلي.

* الوسائل غير المادية المتأثرة بالبعد العقائدي، والثقافي، والفكري للمجتمع(2).

ومن هنا فلا يمكننا أن نتعامل مع الأنشطة الترويحية التي يمارسها الإنسان خلال وقت الفراغ في أي مجتمع من المجتمعات بمعزل عن تلك الخصوصية التي يتميز بها المجتـمع، وبخــاصة عند وضــع الخطــط للمناشــط الترويحية فيه، أورسـم برامجها، أو تصميم المنشآت التي يمارس فيها أفراد المجتمع الأنشطة الترويحية التي يرغبها، لأجل ذلك نجد أن العديد من الدراسات تؤكد على ضرورة مراعاة خصوصية كل مجتمع وعدم التصادم معها عند التخطيط.

إننا عندما نراعي قيم المجتمع الذي نخطط برامجه الترويحية، ونضع ذلك في اعتبارنا حين تصميم منشآت البرامج والأنشطة الترويحية، ونأخذ بالاعتبار أيضًا أعراف هذا المجتمع، وعاداته وتقاليده، فإننا نضمن النجاح التام بإذن الله، بالإضافة إلى تحقيق أقصى فاعلية في الإنتاجية الاستثمارية للبرامج الترويــحيـة التي نقــدمها لـذلك المجتــمع. وبغير ذلك فــإن الأمر لا يعدو أن يكون هدرًا ماليًا وبشريًا على حساب المجتمع.

لذلك لا عجب أن نرى فشل العديد من البرامج والأنشطة الترويحية التي نخطط لها في عالمنا المعاصر، وما ذلك إلا بسبب النقل الحرفي لأنماط غريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية، ودونما مرعاة لخصوصية المجتــمعات التي نقلت منها هذه البرامج الترويحية، أو التي نقلت إليها هذه البرامج، فقد يفشل البرنامج الترويحي نفسه الذي نجح نجاحًا كبيرًا في مجتمع آخر والعكس صحيح، وهذا يعود إلى التباين في المنطلقات العقدية، والخلفيات الثقافية للمجتمعات المنقول منها أو المنقول إليها.

ومما لا شك فيه أن المجتمع المسلم المعاصر يواجه سيلاً من الأشكال والأساليب الترويحية وهي على قسمين:

أحدها: وفد إليها من خارج أرضها، وفي بعضها ما يخالف قيم المجتمع المسلم وأعرافه وتقاليده.

والآخر: نابع من داخل المجتمع ومنطبع بقيمه وتقاليده وأعرافه.

وتتزايد تلك الأشكال والأساليب الترويحية يومًا بعد يوم، مما يحتم وضع قواعد عامة وضوابط محددة تقاس عليها تلك المناشط والبرامج لمعرفة مدى مناسبتها للمجتمع من عدمه.

وحتى يحقق الترويح دوره كاملاً في المجتمع المسلم، ينبغي مراعاة عدد من الضوابط الشرعية والأخلاقية العامة، التي يمكن إجمالها فيما يلي:

أولاً: ضوابط تتعلق بالنشاط الترويحي ذاته

قبل ممارسة النشاط الترويحي لا بد من التعرف على الحكم الشرعي فيه، إذ توجد بعض الأنشطة الترويحية محرمة في الإسلام ابتداءً، ومن ذلك:

أ- النـــشــاط التــرويحي الذي يصاحبه أو يكون فيه سخريـــة بالآخــرين، أو لمزهم، أو ترويع لهم. قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} (الحجرات: 11). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها)(3)، كما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا)(4).

ب- النشاط الترويحي الذي يصاحبه أذية بقول أو فعل للآخرين، أو ضرر بدني أو معنوي للآخرين. قال - تعالى -: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينا} (الأحــزاب: 58)، وللحــــديث المتــفق عليــه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)(5).

جـ- النشاط الترويحي المحتوي على الكذب والافتراء، لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ويل للذي يحدث فيكذب ليُضحك به القوم، ويل له، ويل له)(6).

د- المناشط الترويحية القائمة على المعازف أو الموسيقى المحرمة، لورود الأدلة على عدم جوازها، ومن ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)(7). وفي الحديث أن كل ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - حرام، إلا أن قومًا من أمته يستحلونها وهي محرمة، ومن ذلك المعازف(8).

هـ- المسابقات القائمة على اتخاذ الحيوانات غرضًا يرمى، للحديث المتفق عليه الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا)(9).

و- الترويح القائم على التحريش بين البهائم، كما يحدث في بعض المجتمعات عند تنظيم مسابقات المناطحة بين البهائم، أو المناقرة بين الديوك، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التحريش بين البهائم)(10). والتحريش هو: إغراء وتحريض البعض على الآخر.

ز- المسابقات التي يستخدم فيها أدوات ورد النص الصريح بتحريمها مثل النرد، لما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لعب بالنردشير(11)فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)(12). وفي الموطأ أن عائشة - رضي الله عنها - بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانًا فيها وعندهم نرد، فأرسلت إليهم لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم...).. كما روى مالك - رحمه الله - في الموطأ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه إذا وجد أحدًا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها)(13).

 

ثانيًا: ضوابط تتعلق بالمشاركين في الترويح:

من المعلوم أن معظم الأنشطة الترويحية التي يمارسها الفرد تكون بشكل جماعي، وهذا يؤكد أهمية وضع عدد من الضوابط التي تتعلق بجماعة الترويح المشاركة للفرد في الأنشطة الترويحية، ومنها:

أ- التأكد من خيرية تلك الجماعة، فالرفقة السيئة لها دورها السلبي الذي لا ينكر على الفرد، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)(14).

ب- عدم الاختلاط بين الجنسين، لقول الله - عز وجل -: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن... } (الــنـــــور: 30-31)، وللحديث الذي يرويه أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)(15). ولا يخفى على اللبيب ما يؤدي إليه الاختلاط بين الرجال والنساء من مفاسد سلوكية وأخلاقية تئن منها المجتمعات التي عاشت الاختلاط، إضافة إلى أن ما يناسب الذكور من الترويح في الغالب لا يناسب الإناث.

 

ثالثاً: ضوابط تتعلق بوقت الترويح:

ومن تلك الضوابط ما يلي:

أ- يجب ألا يكون الترويح في الوقت المخصص لحقوق الله، أو حقوق الناس، فلا ترويح في أوقات الصلاة مثلاً، لما فيه مــن اعتـداء عــلى حقـوق الله، لقــوله - عز وجل -: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} (البقرة: 238)، ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي الأعمال أفضل? قال: الصلاة لوقتها وبر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله) (16). وكذلك لا ترويح في أوقات العمل، إذ فيه اعتداء على حقوق الناس.

ب- عدم الإفراط في تخصيص معظم الأوقات المباحة للترويح، فالاعتدال والتوسط من خصائص هذا الدين وسمة أساسية من سماته.

 

رابعًا: ضوابط تتعلق بمكان الترويح:

من أبرز الضوابط التي يلزم مراعتها فيما يتعلق بمكان الترويح ما يلي:

أ- عدم إلحاق الأذى بذات المكان أو منشآته، فأمكنة الترويح حق مشترك بين جميع الناس، فمن أفسد على الناس مكان ترويحهم فقد اعتدى عليهم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله ? قال: الذي يتخلّى\' في طريق الناس أو في ظلهم)(17).

ب- عدم مضايقة المقيمين، أو العابرين، أو المستفيدين من أمكنة الترويح، وهذا ينطبق على البراري، والمتنزهات السياحية، والساحات العامة، لقوله - تعالى -: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا} (الأحزاب: 58)، ولحديث: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناسِّ الذي يُحبٌّ أن يُؤتى\' إليه... )(18).

جـ- اختيار المكان المناسب للترويح حسب نوع الترويح، فما يصلح في الساحات العامة قد لا يصلح في المنزل.

 

خامسًا: ضوابط تتعلق بزي الترويح:

ويقصد بذلك الالتزام باللباس الشرعي وفق ما حدده الشرع، سواء للذكر أو للأنثى، فعورة الرجل من السرة إلى الركبة، للحديث الذي يرويه محمد بن عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر على معمر رضي الله عنه، وهو جالس عند داره بالسوق وفخذاه مكشوفتان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة) (19). والمرأة كلها عورة بحضرة رجال غير محارم لها، إلا أن تكون من القواعد من النساء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (المرأة عورة وأنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وأنها أقرب ما تكون إلى الله وهي في قعر بيتها) (20).

 

سادسًا: ضوابط عامة:

أ- مراعاة الأخلاق العامة، مثل تجنب الغضب، والكلام البذيء، والغش، ومثيرات العداوة والبغضاء، والتعدي على الآخرين.

ب- مراعاة التنوع في الترويح، فلا يركز على أحد الجوانب الترويحية دون الجوانب الأخر.

جـ- مراعاة الصحة العامة والنظافة بشكل عام في جميع الممارسات الترويحية.

د- منع الصرف الزائد على الجوانب الترويحية، وإعطاء كل ذي حق حقه في الصرف.

هـ- عدم التبعية وتقليد الآخرين في استجلاب أنماط ترويحيــة لا تتوافق وقيم المجتمع المسلم، فإن ما يصلح لغير المسلمين من أنماط ترويحية متسقة ومستمدة من قيمهم ودينهم لا يصلح للمسلمين، لحـديث ابن عــمر أن رســول الله - صلى الله عليه وسلم - قــال: (من تشبه بقوم فهو منهم)(21). والمطالبة بعدم التقليد والتبعية لا تعني عدم الاستفادة من الآخرين، بل تعني ضبط هذه الاستفادة وإخضاعها للمراقبة والتقويم، وتكييف الأنشطة الترويحية المجلوبة مع قيم المجتمع وثقافته.

ومما لا شك فيه أن المجتمع المسلم في حالة أخذه بتلك الضوابط فإنه يعمل بشكل مباشر على إنجاح برامجه الترويحية، لأنه أخذ في الاعتبار الخصوصية التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات على سطح الأرض، وهذا بدوره يؤدي إلى تحقيق النتائج المتوقعة من البرامج الترويحية، وليس هذا فحسب، بل ستكون في أقصى درجات الإيجابية على الفرد وعلى المجتمع بصفة عامة، فضلاً عن تحقيق التوازن في حياة الفرد، والمجتمع المسلم في أوضح صوره ومعانيه، إضافة إلى الاقتراب من التكامل في حياة المجتمع المسلم، وتحقيق المقاصد المستهدفة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر.

ولقد غفل عن هذا المبدأ المهم في عملية التخطيط للبرامج الترويحية -وهو مبدأ الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمع- بعض من كتب في الأنشطة الترويحية وأوقات الفراغ، إضافة إلى إهمالهم بعض الضوابط السابقة، مما يجعلنا نحكم بفشل تلك البرامــج وعــدم منــــاسبتها بشــكـلها المـطــروح دونمــا تعديل.. ومما يؤسف له أن معظم كتب الترويــح العــربـية تــورد أنشــطــة لا تتناسب والمجتمع المسلم، فقلما نجد كتابًا من الكتب المذكورة يخلو من الحث أو التشجيع على ممارسة الموسيقى والعزف، والغناء والرقص، وإقامة نواد لها، بل واعتبارها جانبًا مهمًا في العملية الترويحية، على الرغم من ورود الأدلة العديدة والصريحة في تحريمها.

كما تقوم بعض هذه الكتب بالحث على ممارسة المراسلة بين الجنسين، وكذلك الدعوة إلى أنشطة سلبية وضارة وبعيدة كل البعد عن الفائدة والابتكار، بل هي تبعية وتقليد محض، وذلك مثل الحث على جمع الأزارير، أو إقامة حفلات أعياد الميلاد، والحفلات التنكرية، وحفلات الأزياء.

وبالجملة ينبغي أن تراعى بعض القواعد الرئيسة حين التخطيط للأنشطة الترويحية، والبرامج الترفيهية، في المجتمع المسلم، ومن هذه القواعد والأسس ما يلي:

1) يجب أن تكون الأنشطــة الترويــحيــة مباحة في الإسلام، وألا تتعارض مع قواعده العامة.

2) أن تعمل الأنشطة الترويحية على تحقيق الأهداف العليا للأمة الإسلامية.

3) أن تكون تلك الأنشطة الترويحية محققة للمصلحة العامة للأفراد والمجتمع بشكل عام(22).

ففي ظل هذه الأسس والقواعد العامة، التي تكون إطارًا عامًا تدور حول محوره الأنشطة الترويحية والبرامج الترفيـهية التي يتم تخطيطي ها وتقديمها في المجتمع المسلم ولأفراده، نضمن -بإذن الله - تعالى - النجاح لهذه البرامج الترويحية وتحقيقها لأهدافها، وحسن استغلال الوقت بصفته ثروة تمتلكها الأمة ضمن ما تمتلكه من ثروات. أما بغير ذلك فإننا من المؤكد سنجد أنفسنا في تخبطات يمارسها المخططون لبرامج ترويحية وترفيهية، تعجز عن تلبية حاجيات المجتمع المسلم وأفراده، فضلاً عن الآثار السلبية التي سيجنيها المجتمع اجتماعيًا، واقتصاديًا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply