ليس كل الذكور رجالاً، ولا كل المؤمنين رجالاً، ولا كل أصحاب العضلات المفتولة، أو الشوارب المبرومة، أو اللحى المسدولة، أو العمائم الملفوفة، أو النياشين البراقة، أو الألقاب الرنانة رجالاً.
وبالرغم من كثرة المسلمين في هذا الزمان واقتراب أعدادهم من المليار ونصف، إلا أنني أجزم أن أكبر أزمة تعانيها الأمة الآن - بعد أزمة الإيمان - هي أزمة رجولة وقلة رجال.
والمتأمل في القرآن الكريم يكتشف أن الرجولة وصف لم يمنحه الحق تبارك و- تعالى - إلى كل الذكور، ولم يخص به إلا نوعًا معينًا من المؤمنين، لقد منحه لمن صدق منهم العهد معه، فلم يغير ولم يبدل، ولم يهادن، ولم يداهن، ولم ينافق، ولم يتنازل عن دينه ومبادئه، وقدم روحه شهيدًا في سبيل الله، أو عاش حياته في سبيله مستعدًا ومنتظرًا أن يبيعها له في كل وقت، نفهم هذا من قول الله - عز وجل -: {مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً} [الأحزاب: 23]، فقد بين - سبحانه - صفات الرجولة بعد أن أكد أنه من المؤمنين رجال وليس كل المؤمنين رجالاً.
والرجولة وقوف في وجه الباطل، وصدع بكلمة الحق، ودعوة مخلصة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، واستعلاء على الكافرين، وشدة على المنحرفين وأصحاب الأهواء، وابتعاد عن نفاق وتملق ومداهنة السلاطين وأصحاب النفوذ، ومواجهة للظلم والظالمين مهما عظم سلطانهم، ومهما كلف تحديهم، واستعداد للتضحية بالغالي والنفيس والجهد والمال والمنصب والنفس من أجل نصرة الحق وإزالة المنكر وتغييره.
يفهم هذا من موقف مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، لكنه لم يستطع السكوت عندما علم بعزم فرعون على قتل نبي الله موسى - عليه السلام -، وقرر الوقوف في وجه الظلم، ومناصرة الحق، ولم يخش على حياته التي توقع أن يدفعها ثمنًا لموقفه، ولم يخش على منصبه الكبير عند فرعون، فنهاه عن قتل موسى - عليه السلام - وحاول إقناعه بأن ذلك ليس من الحكمة والمصلحة، ولم يكتف بذلك، بل توجه إلى موسى وأخبره بما يخطط له فرعون وزبانيته، ونصحه بالخروج من مصر، وقد استحق هذا المؤمن وصف الله له بالرجولة فقال - سبحانه -: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِن آلِ فِرعَونَ يَكتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَد جَاءَكُم بِالبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُم وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبكُم بَعضُ الَّذِي يَعِدُكُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهدِي مَن هُوَ مُسرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، وأكد على وصفه بالرجولة في موضع آخر فقال - تعالى -: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِن أَقصَى المَدِينَةِ يَسعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلأَ يَأتَمِرُونَ بِكَ لِيَقتُلُوكَ فَاخرُج إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20]. كما يفهم من موقف الرجل الصالح حبيب النجار الذي سمع أن قومه قد كذبوا المرسلين، وهموا بقتلهم جميعًا، فلم يسكت عن هذا المنكر والظلم الذي سيقع على المرسلين، وقرر نصرتهم، فجاء مسرعًا من أقصى المدينة، ودعاهم إلى الحق، ونهاهم عن المنكر، وقد فعل هذا وهو يعلم أن موقفه سيكلفه حياته، فحقق صفة الرجولة، واستحقها من الله - تعالى -، إذ قال - سبحانه -: {وَجَاءَ مِن أَقصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسعَى قَالَ يَا قَومِ اتَّبِعُوا المُرسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لا يَسأَلُكُم أَجراً وَهُم مُهتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ
أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدنِ الرَّحمَنُ بِضُرٍّ, لا تُغنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُم شَيئاً وَلا يُنقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ, مُبِينٍ, إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُم فَاسمَعُونِ} [يس: 20-25]. ودفع هذا المؤمن الرجل ثمن موقفه كما توقع، فقتلوه، فتقبله الله شهيدًا، ورضي عنه، ورفعه مباشرة إلى الجنة: {قَالَ يَا لَيتَ قَومِي يَعلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكرَمِينَ} [يس: 26، 27]، وقد استحق بسبب رجولته وغضبته لله أن يغضب الله له وينتقم من أعدائه ويدمرهم: {وَمَا أَنزَلنَا عَلَى قَومِهِ مِن بَعدِهِ مِن جُندٍ, مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَت إِلاَّ صَيحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُم خَامِدُونَ} [يـس: 28، 29].
والرجولة ثبات على الحق، ومحافظة على العبودية لله، وصمود أمام مغريات الدنيا وشهواتها، وكل ما يشغل الناس العاديين ويلهيهم عن ذكر الله - تعالى - وطاعته والتقرب إليه، يفهم هذا من وصفه - سبحانه وتعالى- لهذا النوع من المؤمنين بالرجولة في قوله - عز وجل -: {رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ} [النور: 37].
والرجولة قوامة على النساء، ومن لا يملك هذه القوامة، ويرضى بأن تكون المرأة قوامة عليه حاكمة له، ويدعها تنحرف وتتبرج، وتفعل ما تمليه عليها أهواؤها، فهو لا يستحق وصف الرجولة، وإنما وصف الذكورة فقط، لأن الحق - جل وعلا - أكد أن الذي يملك القوامة هم أصحاب الرجولة حيث قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...} [النساء: 34].
والرجولة تحريض على الجهاد، وتشجيع على مواجهة الباطل، وابتعاد عن التثبيط والتعويق للصف المؤمن - ولو بالكلمة - يفهم هذا من قصة موسى - عليه السلام - عندما بعث نفرًا من قومه لاستطلاع أحوال الجبابرة قبل خوض القتال معهم، فرجعوا يروون لبني إسرائيل ما رأوه من قوتهم، فأخافوهم، بينما كتم اثنان منهم أخبار قوة الجبابرة، ولم يخبرا إلا موسى - عليه السلام -، وأخذا يشجعان قومهما على الجهاد في سبيل الله، وقد استحق هذان المؤمنان على موقفهما هذا صفة الرجولة من الله - تعالى - الذي قال: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادخُلُوا عَلَيهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلتُمُوهُ فَإِنَّكُم غَالِبُونَ} [المائدة: من الآية23].
وعند التأمل في واقع المسلمين اليوم على ضوء مفهوم الرجولة في القرآن الكريم يتبين لنا أن الأمة تعاني فعلاً من أزمة رجولةº فسكوت أغلب حكام المسلمين عن مقدساتهم التي تدنس، ودمائهم التي تنزف، وكرامتهم التي تمتهن، وأعراضهم التي تنتهك، وأرضهم التي تحتل، وثرواتهم التي تسرق، ناتج عن انعدام الرجولة أو ضعفها عند هؤلاء- فضلاً عن ضعف الإيمان -، فالرجل الحقيقي لا يستطيع أن يلتزم الصمت وهو يرى المسلمين في فلسطين والعراق تمزقهم طائرات اليهود والأمريكان، ولا يطيب له عيش وهو يشاهد ما يفعله أعداء الأمة بحرائر المسلمين وعلمائهم داخل السجون، خصوصًا إذا كان في موضع المسئولية، ويملك الدبابات والطائرات والجيوش الجرارة. لقد كان عرب الجاهلية أفضل حالاً من كثير من حكامنا وقادة جيوشنا اليوم، فقد كانوا رجالاً بالرغم من كفرهم، فتجدهم يموتون دفاعًا عن أعراضهم وكرامتهم وشرفهم وأموالهم، وقديمًا قال أحد شعرائهم زهير بن أبي سلمى:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وقال عنترة بن شداد:
لا تسقــني ماء الحيــاة بــذلة *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
لقد شجع النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يكونوا رجالاً يقفون في وجه الحكام الظالمين، وعد من يقف في وجههم فيقتلونه رجلاً وسيدًا للشهداء، حيث قال: \'سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله\'. [أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه]، كما شخص - عليه الصلاة والسلام - حال أمتنا اليوم في حديثه الذي يقول فيه: \'يوشك الأمم أن تداعى عليكم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ، قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت\'. [رواه أحمد: 22450]، وفي رواية أخرى: \'وكراهية القتال\'.
وأرى أن الوهن وحب الدنيا وكراهية الموت والقتال مرادفات لأزمة أو قلة الرجولة التي تصيب شعوب المسلمين في كل مكان، فلولا هذه لما بقيت قبلة المسلمين الأولى ومسجدهم الأقصى يدنس ويمتهن بأقدام اليهود ويئن على مسمع ومرأى مليار ونصف من أبناء أمته منذ عقود عدة، دون أن تمتد له يد تنقذه، ولولا هذه الأزمة لما ترك الفلسطينيون وحدهم لأكثر من نصف قرن يواجهون بصدورهم أعتى آلة عسكرية في المنطقة، فيقتلون ويشردون وتهدم بيوتهم على رؤوسهم، وتقلع أشجارهم، ولا يرون من أبناء أمتهم دعمًا عسكريًا أو ماديًا أو معنويًا. ولولا هذه الأزمة لما كانت المنابر والخطب والكلام هي الوسيلة الوحيدة التي يعبر فيها كثير من المتحمسين عن تعاطفهم مع دمائنا التي تسيل كل يوم في فلسطين، ولما بقيت حدود المغتصبين الطويلة آمنة مطمئنة، ولما وجد مسلم عذرًا لنفسه، ولاقتدى بالمؤمن الرجل الشيخ أحمد ياسين، الذي لم يجد لنفسه عذرًا بالرغم من شلل جسمه الكامل، فعمل وأسس وبنى وتحدى وقهر وانتصر، وسجن وعذب فثبت وصبر إلى أن لقي ربه شهيدًا في سبيله.
وأخيرًا أجد لزامًا على كل مسلم في هذه الأمة أن يسأل نفسه عددًا من الأسئلة:
هل صدقت ما عاهدت الله عليه ولم أغير ولم أبدل؟
هل أتمنى الشهادة في سبيل الله بصدق وأسعى إليها؟
هل أملك الجرأة على قول الحق مهما كانت النتائج؟
هل أتحرك لإزالة المنكر وتغييره مهما كلفني ذلك من جهد وثمن؟
هل أبذل ما في وسعي لتغيير حال الأمة السيئ؟
هل أصمد وأثبت أمام شهوات الدنيا ومغرياتها وأظل أحافظ على عبادتي وعلاقتي بالله؟
هل أغار على عرضي ومحارمي ومن أعول وأمنعهم من التبرج والانحراف؟
هل أرفض النفاق والمداهنة والتقرب من السلاطين وأصحاب النفوذ على حساب ديني ومبادئي؟
هل أنحاز إلى أهل الحق الذين يجاهدون أعداء الأمة؟
فإن كانت إجاباته: \'نعم\'، فليحمد الله، وليعلم أنه رجل في الزمان الذي قل فيه الرجال، أما إن كانت إجاباته: \'لا\'، فليراجع نفسه، وليعد حساباته، ليكون رجلاً وليس مجرد ذكر، فما أحوج أمتنا اليوم إلى المؤمنين الرجال.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد