فريضة الإعداد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله - تعالى -: \"وأَعِدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عَدوَّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم\". [الأنفال: 60]

 

إن الإسلام دين عامُّ شامل، تشمل أحكامُه ونظريّاتُه جوانب الحياة البشرية كلها وهو للبشرية كافة. مأمور من دخل فيه أن يحمله عقيدةً وشريعةً ويسعى إلى نشرهِ وتطبيقهِ لتصبح السيادة والقيادة له. ثم الناس غير المسلمين أحرار في ظل هذه السيادة فيما يدينون به، لأنه الدين الذي أراده الله وارتضاه لعباده.

 

ولكن الأمر ليس على سهولته في الدعوة والتبليغ والتطبيق إنما هو سُنة الله في الصراع بين الحق والباطل، فالطريق أمام الدعاة ليست معبدة وخالية من العقبات إنما هو إبليس وأتباعه يعدون ويكيدون ويمكرون ويهيّئون من أجل القضاء على دين الله ودعوة الحق. لذلك جاء أمر الله - سبحانه وتعالى - للمؤمنين بأن يُعِدّوا أنفسهم من أجل لقاء عدوّهم، ولأن المعركة شاملة، معركة وجودٍ, أو عدم، معركة زوال أو بقاء، جاء الأمر كذلك على إطلاقه ولم يأت محصوراً في جانب معين من جوانب الإعداد.

 

وبعد أن استطاعت أممُ الكفر مجتمعة القضاء على آخر دولة للإسلام المتمثّلة في الدولة الإسلامية العثمانية وإمعان أعداء المسلمين في التآمر عليهم وعلى بلادهم وذلك من خلال تقسيمها إلى دويلات كثيرة تحكم نفسها وفق قوانين ودساتير معظمها مستوحى من قوانين ودساتير الدول المستَعمرة، كل ذلك من أجل أضعاف المسلمين وإبعادهم عن توحيد جهودهم وسعيهم لإستعادة مكانتهم في قيادة البشرية من جديد. فكان ما أراده أعداؤنا لنا وإذا بنا: \"كلٌّ حزبٍ, بما لديهم فَرحون\".

 

وبعد أن سيطرت الجاهلية على معظم جوانب الحياة في المجتمعات الإسلامية كان لا بد للمسلمين من اليقظة ـ والخير كامن فيهم ـ بعد السٌّبات العميق ـ اليقظة التي انطلقت مع انطلاقه حركة التجديد في المجتمعات الإسلامية والتي بدأت بشكلها الواسع مع انطلاقه الحركة الإسلامية في أواخر العشرينيات فكان لا بد لهذه الحركة وأي حركة تغييرية شاملة قائمة على أساس الإسلام أن تعود بفطرتها إلى القواعد والمبادئ التي قامت على أساسها دولة الإسلام الأولى بقيادة النَّبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم -، مع النظر في واقع الحياة التي تعيشها الحركة وتحيط بها لمعرفة تطورات العصر وما هي المراحل والوسائل التي لا بد من الأخذ بها ما دامت لا تتعارض مع شرع الله من أجل تأسيس المجتمع الإسلامي وانطلاقته نحو تغيير شامل في واقعه أولاً، ثم لإجلاء الجاهلية عن واقع البشرية المعاصر.

 

وبالعودة إلى الأمر الرباني في الإعداد وتَركِهِ الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات وكل المتطلَّبات في كل عصر وزمن، ومن خلال استقراء واقع المسلمين وما يتطلبه من أجل النهوض بهم رأينا الوقوف على عدد من المرتكزات تتكوّن منها وعلى أساسها القواعد التي يبدأ الإعداد من خلالها والتي تتلخص في الأمور التالية:

 

1 ـ في الإنسان: ويُقصد بالإنسان هنا الفرد المسلم الذي يحمل الإسلام في نفسه ويعمل على تبليغه للناس ودعوتهم إليه. وإعداده يجب أن يُلحظ فيه الجوانب التالية:

 

أ ـ عقائدياً: انطلاقاً من قوله - تعالى -: \"فاعلم أنه لا إله إلا الله... \". وهذا الجانب من الأهمية بمكان عند جميع أفراد المجتمع الإسلامي لأن الجانب العقائدي وما يثمره من سلوك اجتماعي صالح ومن نشاط سياسي يستهدف الهداية وقائم على أساس المفاصلة وإعطاء الولاء والبراء وفق المبدأ والعقيدة بالإضافة إلى كل ما يشتمل عليه الإعتقاد السليم من الإيمان بالله وصفاته وأفعاله وبما أخبر عنه الله - سبحانه - من حقائق الاعتقاد: إذا كانت جميعها سليمة واضحة المعالم عند الأفراد وهم متمسكون بها مطبقون لمقتضياتها فكلٌّ ذلك يعني أن أفعالهم وتصرفاتهم ستأتي سليمة على أساس اعتقادهم السليم.

 

ب ـ علمياً وفكرياً: انطلاقاً من قوله - تعالى -: \"إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ\"، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"طلب العلم فريضة\". فإعداد الفرد علمياً متلازم مع الجانب الفكري فالثانية لا تقل أهمية عن الأولى، وهما يليان في الأهمية الجانب الإيماني. والشاهد أن الكثير من الناس قد حملوا علماً ولكنهم في حالة تشويش فكري مما جعل هذا الأمر يؤثر سلباً في التربية والتوجيه والنظرة إلى المراكز والمواقع المحيطة بهم. وهذا البناء يجب أن يقوم على مرتكزات الكتاب والسُنة على ضوء ما أفتى به الأئمة الفقهاء المعتبَرون عند جمهور المسلمين. ولا يشك عاقل بأن الجهل في العلم والتشويش في الفكر كانا من الأسباب التي ساهمت في نكبة المسلمين وسقوط دولتهم.

 

ج ـ نفسياً وجسدياً: انطلاقاً من قوله - تعالى -: \"قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها.. \"، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"المؤمن القوي خيرٌ وأَحبٌّ إلى الله من المؤمن الضعيف\" فبالإضافة إلى تزكية الأنفس التي هي فريضة وتقوية الأبدان وتعويدها على تحمّل المشاقّ والمصابرة، لا بد من اقتران ذلك بتربية الفرد المسلم ـ والداعية خصوصاً ـ على عدم استعجال قطف ثمار الدعوة وإنما عليه العمل وفق الخطط المرسومة أما النتائج فهي بيد الله يجعلها كيف يشاء.

 

2 ـ في المجتمع: وبعد إعداد الفرد المسلم الإعداد السليم لا بد من أن يترافق ذلك مع خطوة أخرى وهي إعداد هذا المجتمع كي يحتضن الدعوة والدعاة في جميع الظروف والأحوال ويكون عند أفراده الوعي الكامل لمتطلَّبات الدعوة من حيث حمل الفكرة وتَبِعاتها، ويتجلى هذا الأمر في كتاب الله - سبحانه - بشكل واضح وصريح من خلال قصة سُليمان - عليه السلام - مع الهدهد، فالهدهد واحد من جند سليمان عندما ذهب من غير تكليف فوجد ملكة سبأ تسجد للشمس من دون الله فغضب واغتاظ وسارع إلى سليمان - عليه السلام - ليعرض عليه الأمر. وما كان ذلك منه إلا لأنه من أفراد المجتمع يحمل العقيدة والفكرة نفسها التي يحملها القائد وتحملها القاعدة. فجميع أفراد المجتمع لا بد من تحميلهم فكرة الإسلام وعقيدة الإسلام وتأهيلهم لتحمّل التَّبِعات في مختلف الظروف والأحوال.

 

3 ـ في الاقتصاد: والاقتصاد هو عصب الحياة الذي به تقوى حركة المجتمع فيصبح قادراً على الصمود والثبات، ولضرورة البناء القوي للمجتمع الإسلامي لا بد من البناء الاقتصادي الذي يؤمّن الغطاء المالي وهذا يكون ببناء نفوس أبناء المجتمع المسلم على الإنفاق والتضحية ثم بإقامة المؤسسات على مختلف أنواعها وتوجهاتها التي من شأنها تأمين استقلالية الدعوة في مختلف أحوالها وظروفها. كما أنه يتطلب بناء الكوادر في مختلف الاختصاصات التي يُوكَل إليها سدّ ثغرات هذا الجانب.

 

4 ـ في الإعلام:

 

أ ـ الإعلامي الأول (هو الداعية): وهذا مستفاد من قوله - تعالى -: \"يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسِراجاً منيرا\".

 

لأن الداعية هو المبشِّر الأول ووسيلة الإعلام الأولى لما يحمل في نفسه من عقائد ومبادىء وأفكار يبلِّغها إلى الناس، فهو المناقش والمبيِّن لمبادئ الإسلام وهو الكاشف والفاضح لزيف الجاهلية بأفكارها ومفاهيمها وذلك من خلال الجلسات والندوات واللقاءات وعند تجمع الناس في المناسبات.

 

ب ـ المؤسسات الإعلامية: والتي تنقسم بدورها إلى ثلاثة أقسام:

 

1 ـ مقروءة: كالجرائد والمجلات والنشرات...

 

2 ـ مسموعة: كإذاعات الراديو...

 

3 ـ مرئية: كالتلفاز وأشباهه...

 

وهذه الوسائل الثلاثة لا بد منها في حالة التوعية الشاملة لأبناء المجتمع الإسلامي ولأولئك الذين لم يصلهم الإسلام أو الذين وصل إليهم ولكن مشوشاً ليعرض على حقيقته.

 

5 ـ في التقنيات: وهذا يعني استخدام كل الوسائل العصرية من الابتكارات المختلفة في مجال الكومبيوتر والاتصالات وغيرها وجعلها مسخّرة في سبيل خدمة الدعوة إلى الله.

 

وأختم بكلام سيد - رحمة الله عليه - في الظلال عند الحديث عن بعض معاني هذه الآية (بتصرف يسير) حيث يقول:

 

\"إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان...

 

وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة: أن تؤمِّن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها فلا يُصَدّوا عنها ولا يُفتنوا كذلك بعد اعتناقها.

 

والأمر الثاني: أن تُرهبَ أعداء هذا الدين فلا يفكِّروا في الاعتداء على دار الإسلام التي تحميها تلك القوة.

 

والأمر الثالث: أن يبلِّغَ الرعب بهؤلاء الأعداء مَبلغاً لا يفكرون بعده في الوقوف في وجه المدّ الإسلامي وهو ينطلق لتحرير الإنسان كلِّه في الأرض كلها.

 

والأمر الرابع:أن تحطّم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الأُلوهية فتحكم الناس بشرائعها وسلطانها ولا تعترف بأن الأُلوهية لله وحده ومن ثم فالحاكمية لله وحده..\" ـ من كتابه \"في ظلال القرآن\" 2/1543 ـ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply