بسم الله الرحمن الرحيم
لو احتجت إلى مالك ما وعظتك
دخل أحد الزهاد على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور فقال له: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلة ً تبيت في القبر، لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده قال: فأفحم المنصور قوله، وأمر له بمال ٍ,، فقال: لو احتجت إلى مالك، ما وعظتك، [البداية والنهاية ج 10 ص 126].
دروس وعبر:
من أجل نعم الله على العباد التوفيق إلى إخلاص القول، والعمل لله - تعالى -.
ومن أكرمه الله - تعالى - بنعمة الإخلاص، أجرى ينابيع الحكمة على قلبه، ولسانه، ورزقه القناعة بما أتاه، فهو بعيد عن لوعة الطمع 0 قد فرّغ قلبه لأداء الواجب، وتعلقت همته بالفردوس الأعلى، فتراه في سعي ٍ, دائم، وجهد ناصب، لربط أسبابه بكل ما يدنيه من تلك الغاية، ويبلغه منازل السائرين إلى الله، لا يثنيه عن ذلك رغبة، ولا يصرفه عنه رهبة.
تراه راسخ الإيمان، ثابت الجنان، لا يخشى إلا الله، ولا يعظم سوى حرماته، سواء عند مجالس الملوك، والأمراء، أو المساكين، والفقراء، يبذل النصح للجميع، كلّ بما يناسب حاله، ويسدد أفعاله وأداء النصح نوع من الجهاد، لا سيما عند إسدائه لذوي النفوذ، والسلطان، ولن يؤتى ثماره إلا إذا سلك الداعية المسلك الصحيح، للوصول إلى هدفه، ومبتغاه.
من أسباب النجاح:
يحرز الداعية النجاح، ويختصر الطريق لتبليغ ما يريد، إذا ما تزود بالقدر المناسب من الثقافة المتنوعة، وفقه واقع الناس، وراعى الفروق الفردية، والاجتماعية، التي ترسخت عبر السنين، وتقلبات الدول، فيرفق بمن يدعوهم، ويشعرهم بمحبته لهم، وحرصه على سعادتهم، ونجاتهم، ويصبر على نفورهم، وإعراضهم، فإن النعمة كثيراً ما تبطر، ولا يطيق التواضع مع الجاه، والسلطان إلا عظماء الرجال.
فليكن التذكير بأثر النعم، والحرص على دوامها، وكيفية الإفادة منها مفتاح الحوار مع أصحابها فإذا ما اقترن ذلك بالترفع عما في أيديهم، والزهد بما عندهم، أنست له النفوس، واطمأنت القلوب، ونال كلامه، وأثر أحسن تأثير.
واعظ أبي جعفر:
لقد أحسن المدخل إلى نفس الخليفة، فأشعره بعظيم مكانته، وجليل نعم الله عليه، فحري بمثله أن لا تشغله متعة عابرة، أو لذة عارضة عن سرور دائم، ونعيم مقيم، ثم دعاء للاعتبار بمصارع من سبقه، والنهاية الحتمية التي تنتظر كل حيّ، وأول واجبات الخليفة أن يقيم الدين، وينشر العدل، ويرفع الحيف، ليجد ثمرة ذلك أنساً في مسكن الوحدة، ونوراً يهديه يوم يقعد بالمسرفين عملهم، ويخبو نورهم، ويقفون حائرين بائرين، لا يستطيعون حيلة ً، ولا يهتدون سبيلا.
تتقطع أنفسهم حسرات، وهم يرون أهل الإيمان يسعى نورهم بين أيديهم، وبإيمانهم، وتناديهم الملائكة: {بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم}، [الحديد: 12] فكم هو مغبون من يجد طريقه ممهداً لبلوغ منازل الأبرار، ومزاحمة الصديقين، ثم يخلد إلى الأرض، ويتبع هواه، وينغمس في حماة الذنوب، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!!
فالعاقل من اتعظ واعتبر، وقدم بين يدي قدومه على ربه ما يعلي منزلته، ويثقل ميزانه.
وما أحوج الدعاة اليوم أن يصدروا عن هذا الأدب، ويتحلوا بهذه القيم، ويشغلوا بعظائم الأمور، مدركين ما يحدق بدعوتهم من أخطار، وما يدبر لأمتهم من مكايد، ومؤمرات.
وجدير بالمخلصين من الدعاة الذين اتصلت أسبابهم بأهل الجاه، والسلطان، أن يكونوا شديدي الحيطة، دائمي الحذر، أهل يقظة، وفطنة، مترفعين عن المكاسب الشخصية، يقدرون موارد كلامهم.
ومواقع خطوهم أهل حلم، وأناة، أشداء عندما يستوجب الموقف الصدع بالحق، والجهر به أما أولئك الذين تندلق أقتابهم، عندما تلوح المكاسب، والمناصب، فيلهثون وراءها، حتى يعييهم الجري، ويضنيهم المسير، ويقدمون دينهم، ومبادئهم ثمناً لعرض ٍ, من الدنيا قليل، فهم أمة من الناس رضوا لأنفسهم الذيليّة، والتبعية، واسترقهم حب الذهب، وبريق الجاه، فلهم أن يطلقوا على أنفسهم ما شاءوا من الألقاب، والصفات إلا أن يكونوا دعاة إلى الله - عز وجل - سدد الله الخطى، ووفق الجميع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد