حتى لا نسقط في الفتنة ( 1 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 
نظرات في أزمة الحوار عند أهل السنة والجماعة

تمهيد:

الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.

 

أما بعد: فإن المتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرº وفي واقعها الحالي يرى مظاهر التمزق والتآكل والنزاع التي لا تغيب عن العين، والتي تكاد تنتشر بين معظم الاتجاهات وأكثر الطوائف والجماعات، كما يدرك أن طريقة نشوء الاختلاف والفرقة في معظم الأحوال متشابهة، إن لم تكن واحدة.

 

تبدأ الدعوة بجهد فرد، أو مجموعة من الأفراد، ويبارك الله في الجهود المخلصة، وتأخذ البذور في النمو والعطاء، ويبدأ العمل في الاتساع والانتشار، وتحيا آمال ذابلة في صدور المسلمين، ثم لا يطول الزمن حتى تضيع تلك الآمال في دوامة الاختلاف الرهيبة.

 

وعادة ما يبدأ الخلاف حول فتوى أو فتاوى تصدر عن بعض الدعاة، وربما حول أحد المواقف في قضايا عامة أو خاصة، ويصبح الناس بين مؤيد ومعارض، وتبدأ ردود الأفعال، والمواقف التي تعارض هذه الفتوى أو تتعصب لها، ثم يتحول التعصب إلى شخص المفتي فيكون له أو عليه، ثم يصبح الخلاف في الرأي مبدأً وديناً، حتى إذا شبت حرب الاتهاماتº بدأت سلسلة الانشطاراتº تتبعها سلسلة من الخلافاتº فإذا بالجماعة جماعات، ثم بالتالي تنشطر كل جماعة إلى جماعات بدورها، وقد يبرز في الجماعة شخص قوي التأثير، يكبح جماح الخلاف بقوة شخصيته إلى حد ما حتى إذا غاب أو غيب، سار الأمر في طريقه المرسوم، وقد يبدأ الانشطار في مرحلة مبكرة، تجعل المهد لحداً، والمحصلة في الحالين واحدة، والاختلاف ليس إلا في زمن الوصول للنهاية.

 

أسباب استفحال الخلاف:

إن مما لا ريب فيه أن للاختلاف جذوراً وروافد تمده بالحياة، وتطيل في عمره، والنقطة الأساس في هذه الأسباب المتنوعة ألخصها فيما يلي:

 

كان طريقة الحياة العملية عند المسلمين ونظامهم الاجتماعي الذي يعيشونه في حياتهمº قد انحدر مع انحدار نوعية الحكم الإسلامي، من خلافة راشدة إلى ملك عضوض ثم جبري، وإن تطبيق أكثر المسلمين لمنهاج الحياة الراشدة قد توقف بعد ضعف متدرج، وبعبارة أدق: انحصر في حدود ضيقة، وحالات فردية، وفي مجال الوعظ والإرشاد، والترغيب والترهيب، بعد أن كان منهاجاً للأمة، يسلكه الفرد، وتتعامل به الجماعة.

 

وبالتالي فقد استبدل المسلمون بذلك المنهاج ما ألفوه في محيطهم، وما تلقوه في تربيتهم، وما تسرب إليهم من طرق الأمم الأخرى، بواسطة قنوات المجتمع، الذي تأثر إلى حد بعيد بأساليب وطرق وعادات الأمم التي يتفاعل معها، إضافة إلى بعض الأخلاق الإسلامية، يكتسبها المسلم من مجاهداته ومحاولاته التأسي بآداب وأخلاق القرآن والإسلام، والتي تمر بدورها بميراث من المعتقدات والمفاهيم التي اختلطت فيها أسباب الفرقة والشقاق من بدع وأهواء، بمعاقد الاجتماع الراشد، المقتبس من سنة رسول الله، ومنهج أصحابه - رضي الله عنهم -.

 

ومما لاشك فيه ثانياً أن خصوم الإسلام هم المستفيد الأول من ضعف المسلمين، واختلافهم وفرقتهم، فهم دائبون على إشعال نيران الفرقة، حريصون ألا تخبو أو تهدأ، وذلك ليدوم لهم التسلط على هذه الأمة، ويبقى المجال أمامهم خالياً ليستعلوا بالباطل، ونظرة بسيطة إلى أحداث السنوات الخمس الأخيرة تعطي ألف دليل على صدق هذا القول، لمن كان بحاجة إلى أدلة! وهذا سبب من أسباب الاختلاف، ولابد للمسلمين أن يعوا خطره، بل أن يدركوا مسئوليتهم حياله، وأن يتعلموا كيف يأخذوا حذرهم منه، وكيف يصابروا مشعلي الفتن في الوطن الإسلامي، ويغلبوا بحقهم ومراسهم باطل أولئك.

 

وهناك ثالثاً من بيننا أناس من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، امتهنوا بيع دينهم بدراهم معدودة، على أعتاب الذل والمهانة، يلبسون لكل حال لبوساً، ويتكلمون في كل مقام بلسان ((وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم)) ((ولو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة))، فتنة الإرجاف، والتشكيك، والشائعات، والمتاجرة بالأخطاء وفيكم سماعون لهم، وهؤلاء هم العدو القريب، العليم بنا، المطلع على عوراتنا، فهم أقدر الناس على الفتنة والفساد.

 

وإذا كان الابتلاء رغم ما فيه يحمل الخير إلى المؤمنين الصابرين، فإن من المقطوع به أن أزمة الحوار بين المسلمين، بما تتضمنه من خلل في تنظيم سبل وقنوات عمل الصفوة للوصول إلى تنقيح الرأي، ووضعه أمام أنظار المسلمين الذين يتطلعون إلى طليعة تسدد مفاهيمهم، وتهدي آراءهم، هذه الأزمة تتضمن رغم ما فيها من ابتلاء مبشرات ببدء القيادات العلمية للمسلمين في رحلة العودة إلى مركز توجيه عقل المسلم، وترشيد الرأي الإسلامي، والموقف الإسلامي، بعد أن غابت طويلاً في أسر عادات وطرق الحياة الفردية.

 

ماذا إذا تفرقت الفرقة الناجية؟

لا عجب ولا غرابة في تفرق أهل الأهواء، ولا في تباغضهم وتطاحنهم، لأن تفريطهم بأسباب الاجتماع السلفي الراشد لن يجر وراءه غير ذاك التفرق والتباغض، بل العجب الذي لا يصدق أن تراهم مجتمعين الاجتماع الشرعي البناء، الذي يحبه الله ورسوله، وهم موالون لبدعهم التي فرقت الأمة الواحدة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كل فرقة منها تتدين بدين يخالف ما تتدين به الأخرى!.

 

ولذا يبقى في قلب المسلم بصيص من الأمل، رغم زوابع الفتن، وعواصف المحن، ويبقى بصره متعلقاً بالطائفة المنصورة التي أكد رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تزال قائمة على الحق، لا يضرها خذلان مخذول، ولا خلاف جاهل، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: \"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك. \"[1].

 

حتى تتحقق على يديها الخلافة الموعودة على منهاج النبوة، كما في الحديث الآخر: \"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله - تعالى -، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله - تعالى -، ثم تكون ملكاً عضوضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله - تعالى -، ثم تكون ملكاً جبرياً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله - تعالى -، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. \" [2]

 

أما إذا تمكن الاختلاف من صفوف الطائفة المنصورة، وعجزت عن كبح جماحه، وتحول إلى فرقة والعياذ بالله، فتلك هي الفتنة الصماء، والداهية الدهياء.

 

إن الناس إذا فسدوا أصلحهم الله بالسنة، وبمنهج الصحابة، وجمعهم بمنهج السلف، أما إذا فسد ملح الأرض، فبأي شيء تصلح؟؟.

 

لو تفرق المتعاقدون على الولاء لمنهج السنة النبوية فإن هذا التفرق يعني أمرين خطيرين، أولهما أن أمام الأمة ليل فتنة طويل ثقيل، وأن فجرها المرتقب ما يزال بعيداً بعيداً! وأنه قد آن لأعداء الإسلام أن يستبشروا باستطالة أحقاب التسلط والاستعلاء بغير الحق.

 

وثانيهما أن أعمالنا تخبر خبراً قاطعاً لا ريبة فيهº بأن أصحاب الأمانة قصروا في فهم واجبهم، أو في أدائه!.

 

أما السبب الداعي لطرح هذه الاحتمالات فما تردد مؤخراً على بعض الألسن وما جرت به بعض الأقلام، من عبارات تنذر ببداية نشوء محاور للتجزئة والاختلاف داخل صفوف دعاة السلف السائرين على منهج أهل السنة والجماعة، فهل نسمح بانتقال مأساة الانشطار والتمزق إلينا؟ أم نعمل على تجاوز هذه المشكلة، ونحن الذين نعتقد أننا أقرب الناس إلى منهج السلف، منهج السنة والجماعة، منهج السنة الجامعة؟.

 

ومادام الخلاف بين دعاة السنة حقيقة ظاهرة، فلابد من تحديد نقاط هذا الخلاف، والعمل على محاصرته، ودفع غائلته، والوسيلة لذلك هي الحوار الراشد، ولذا كانت هذه المقدمة عن الحوار، وأزمته، وضرورة التعجيل بترشيده.

 

ولابد من التركيز بأن ما أعنيه في حديثي عن الحوار، هو الحوار بين المسلمين الذين ارتضوا منهج السلف، منهج أهل السنة والجماعة، وحول طرق الاستمداد من أصول هذا المنهج، وربط الدعوة الإسلامية بموازينه وضوابطه.

 

أما الحوار داخل الصف الإسلامي الذي اختلطت فيه المناهج، وتعددت فيه الاتجاهات، ولا زالت أكثر فصائله بعيدة عن فهم حقيقة منهاج أهل السنة، بخصائصه ومميزاته، وما زالت مترددة في الالتزام بهذا المنهج، فلا زال مع أولئك الأخوة يدور حول قضية الاختيار المنهجي، والتخلص من الفوضى العلمية التي تتخبط فيها تلك المجموعات.

 

وأما ما يسمى: حوار الأديان، ونسميه: دعوة غير المسلمين، فهذا له شأن آخر، بعيد عن موضوعنا، منهجاً وعرضاً ومساراً، وهو يأتي في مرتبة عاشرة بعد الفراغ من تصحيح عقائد المسلمين ومفاهيمهم، وإصلاح أخلاقهم، ثم استئناف الحياة الإسلامية الراشدة، فلا تكون دعوة هؤلاء المنتسبين إلى النبوات الأخرى كما هي اليوم في الغالب: مزيجاً من انهزاميتنا وغطرستهم، وتملقنا ومكرهم، ولا تغدو النتيجة هي المزيد من تذويب الشخصية الإسلامية باسم الحوار، ثم الاستدراج والتجسس والتدمي...

 

----------------------------------------

[1] - رواه مسلم وغيره

[2] - تحقيق مشكاة المصابيح لشيخنا محمد ناصر الدين الألباني - حفظه الله - 3/1478 - 1479 وقد حسنه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply