هل سبق وذهبت إلى تركيا ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا تيسر لك ذلك فيما سيأتي من الزمان فانطلق إلى مدينة اسطنبول في منطقة تسمى \'فاتح\' واسأل هناك عن مسجد اسمه \'صانكي يدم\' وعندما تجده قف أمامه طويلاً وتأمله، وأنا أقص عليك حكايته.

 

يروى الأستاذ الفاضل \'أورخان محمد على\' في كتابه الشيق \'روائع من التاريخ العثماني\' قصة لأقرب اسم جامع في العالم \'صانكي يدم\' وترجمتها بالعربية: \'كأنني أكلت\' \'افترض أني أكلت\' وراء هذا الاسم الغريب تختفي قصة أغرب يحكيها لنا الأستاذ الفاضل \'أورخان\' فيقول:

 

\'كان يعيش في منطقة \'فاتح\' في اسطنبول شخص اشتهر بالورع اسمه \'خير الدين كجي أفندي\' وكان هذا الرجل عندما يمشي في السوق وتتوق نفسه لشراء فاكهة أو لحم أو حلوى يقول في نفسه \'صانكي يدم\' \'كأنني أكلت\'. ثم يضع ثمن تلك الفاكهة أو اللحم أو الحلوى في صندوق له ومضت الأشهر والسنوات وهو يكف نفسه عن كل لذائذ الأكل ويكتفي بما يقيم أوده فقط. وكانت النقود تزداد في صندوقه شيئًا فشيئًا حتى استطاع بهذا المبلغ الموفور القيام ببناء مسجد صغير في منطقته، ولما كان أهل المنطقة يعرفون قصة الرجل وكيف أمكنه بناء المسجد مع فقره أطلقوا عليه اسم \'جامع صانكي يدم\' أو \'جامع كأنني أكلت\'.

 

عزيزي الشاب:

لا تخش شيئًا لست أحكي هذه القصة كي أطالبك بالامتناع عما لذ وطاب من الأطعمة والأشربة ولكن لأنبهك أن شهوتك تبني فلا تجعلها تدمر، وتبني وتقيم لا لتدمر وتهدم وتفسد، فلا يخلق الله شرًا محضًا، إنه أنت من جعلها شرًا بتوجيهها إلى غير ما أراد الله وأحب.

 

الشهوة ليست شرًا ولا غولاً ولا وحشًا إذا هاج حطم كل الحواجز والحدود بل هو طاقة أودعها الله الجسد لتصرف في مصارفها فتستقيم الحياة وتتزين.

 

إذن من أين تأتي مأساتنا مع الشهوة؟

إنها تنبع من تصوراتنا حولها وحول مجتمعنا والصواب والخطأ والحلال والحرام وفوق ذلك كله جهلنا بحقيقة أنفسنا ومنابع القوة فيها ووسائل استنفاذها من براثن الجهل والوحل واليأس.

 

إنني على يقين لا يقبل أدنى شك أن الإنسان خلقه الله - تعالى - لعمارة الأرض وتحمل مسئولية باقي المخلوقات بأن يعاملها بشرع الله - تعالى - من جماد وحيوان ونبات، هذا الإنسان لا يمكنه أن يقف عاجزًا أمام شهوة قد أسلم القياد لها إلا بمحض إرادته ورغبته.

 

هل تملك حيوانًا أليفًا في منزلك؟

لقد دخلنا الكثير من البيوت التي ترى هذه الحيوانات الأليفة فرأيناها تختفي بمجرد رؤيتنا وتستحي من مقابلتنا، وإذا ظهرت لنا ظهرت معها الوداعة والرقة والألفة كلها، ودخلنا بيوتًا أخرى كنا بمجرد مد أيدينا لمداعبة الحيوانات المرباة فيها نفاجئ بعودة أيدينا مخدوشة أو مجروحة، ونحن لم نمدها إلا للألفة والمداعبة. فما الفرق؟

 

تبين الفرق بسؤال أهل البيت عن كيفية التعامل مع هذا الحيوان فتأتيك الإجابة أعجب من العجب، إننا نحمله ونضربه في الحائط.. نمسكه من ذيله ونجعله يدور حتى يدوخ.. إلخ.

 

وعلى الجانب الآخر ترى في البيت الأول تعاملاً شديد الآدمية والرقة والاحترام... وهكذا الشهوة.

 

يا من علمت شهوتك الافتراس... شهوتك تحتاج أن تروض لتنال الأدب الذي هتكته أنت، ويا من لم تؤذ شهوتك ولم تعلمها الافتراس انتبه فقد قيل \'علمته الرماية فكنت أول من رماني\'.

 

إننا ونحن نخاطب شباب الإسلام حول قضايا الشهوة إنما ينبغي أن نتنبه أننا إنما نخاطب نوعين رئيسيين من الشباب:

 

الصنف الأول: نوع لم يهتك شهوته وحاجز عفته بأي شكل من أشكال التجاوز والتعدي، وهما قطاع عريض من شباب الأمة لا يستهان به مع أنهم غير ظاهرين للعيان، فإلى هؤلاء يكون الخطاب كيف تصون أمانة الله لك؟

 

 كيف تحفظ عقلك حتى تكون يوسف هذا الزمان؟

 

ما الطريق وما العقبات وكيف نعبرها؟

من المعين ومن يؤذي؟ وما مداخل الشيطان وكيف تغلق وتقاوم؟

 

والصنف الثاني: شاب من الأمة أزلهم الشيطان فزلت أقدامهم فهتكوا عفتهم وتجاوزوا حدهم واعتدوا {فَمَنِ ابتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُون َ}.

 

وهؤلاء ليسوا شيئًا واحدًا بل هم درجات، فمنهم من يصل به التعب مداه وتبلغ شهوته أوجها فيندفع إلى تصريفها فيما حرم الله ولا يصبر.

 

ومنهم من يستثير شهوته وهي ساكنة ويوقظ الصور النائمة في مهدها ويدفع نفسه دفعًا بمحض إرادته وبغير ضغط إلى ارتكاب ما حرم الله - تعالى -، وهتك عفته إما استهتارًا وهو الأغلب الأعم أو عادة أو غيرها.

 

والغرض من هذا التقسيم ليس في إيجاد المبررات لنوع دون الآخر ولكن لكي يحسن الشاب تصنيف نفسه في مسألة الشهوة حتى يمكن تحديد وسائل الحل والتعامل مع النفس والعلاج.

ولتنتبه إلى قاعدة جليلة [إنما الأعمال بالنيات] فقد يرتكب اثنان ذات المعصية فيغفر لأحدهما ولا يغفر للآخر، فلا تعظم نوايا الفساد في المعصية وإياك وجلد الفاجر.

 

فائدة أخرى في هذا المقام: أن بعض من يهتكون عفتهم يضعون حدودًا هي في الأصل ليست شرعية لكنها توحي بوجود بقية من حياء وجزء من استحياء ما زال ينبض ولكنه لن يسافر من بلده إلى بلد آخر [من مدينة لأخرى] سيعصي ولكنه لن يحافظ على علاقة مستمرة للمعصية، سيعصي لكنه لن يفعلها في بيت أبيه وأمه، وأن يكون سببًا في عدم طهارة بيت أبيه وأمه وإخوته، سيعصي ولكنه سيحافظ على أمه وأخته هذا بالتأكيد أمره قريب والأمل فيه كبير.

 

وعلى الجانب الآخر يقف نموذج عجيب تسأله، أو بالأصح أن تسأله إذا كان يرضى ما يفعله لأمه وأخته فتكون الإجابة نعم لا دخل لك أنت.

 

وآخر يهتك حرمة البيت الذي تربى فيه، ويصلي فيه أبوه وأمه وإخوته بغير استشعار لعظم الجرم في ذلك.

 

وهذا النوع يحتاج إلى مراجعة أكيدة ووقفة حاسمة فعما قريب إذا لم يدرك نفسه ستقع الطامة باختلاف شكلها هدانا الله وإياه.

إذن فلا بد أولاً من تعرف جيد على أنفسنا قيمتها، حقيقة دورها، قدراتها وإمكانياتها، وشكلها، وهي تتجاوز حدها وتعتدي على نفسها، فهذه أولى خطوات الحل الحقيقي وتحصيل الحياة الطيبة {مَن عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ, أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ}[النحل: 97].

 

وختامًا عزيزي الشاب: لا تنس نصيحتي عندما ييسر الله لك زيارة تركيا أن تتوجه إلى مدينة الإسلام [إسلام بول ـ اسطنبول] عاصمة الخلافة العثمانية وتسأل هناك عن منطقة تسمى \'فاتح\' وتبحث فيها عن مسجد \'صانكي يدم\' وتقف أمامه وتتأمله، ومع أنني في الحقيقة لم أره إلا أني على يقين أنه في غاية الجمال فهو شاهد على نفس أرادت... فحققت ما أرادت.. وصبرت... فنالت ما أملت، وطمعت.. فأدركت الأجر والثواب إلى يوم القيام بإذن الله.. ورأت الفجر بازغًا في ظلمة الليل فأيقنت.. أكرمك الله وثبتك وأعانك وهداك.

 

أخي الشاب: \'شهوتك تبني فلا تجعلها تدمر\'

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply