بئس ما يشترون


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 ((وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون. لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم)) [آل عمران/187 - 188].

((وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)) أي: اذكروا إذ أخذ الله الميثاق عليهم بلسان أنبيائهم. قال الأستاذ الإمام: ولا نقول في التوراة لأن القرآن لم يقل بذلك ولا بعدمه، فليس لنا أن نقيد برأينا ما أطلقه، ونزيد عليه بغير علم، ((لتبيننه للناس ولا تكتمونه)) أي: أكد عليهم إيجاب البيان أو التبيين، وفيه معنى التكثير والتدريج، كما يؤكد على المخاطب أهم الأمور بالعهد واليمين فيقال له: آلله لتفعلن كذا، فقراءة من قرأ وابتاه الخطاب حكاية للمخاطبة التي أخذ بها الميثاق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم -في رواية ابن عياش - بالمثناة التحتية ((ليبيننه للناس ولا يكتمونه)) لأنهم غائبون. وقد تقدم بيان معنى أخذ الميثاق في الآية 81 من هذه السورة (راجع ص 350 من جزء التفسير الثالث).

 

روي عن سعيد بن جبير والسدي أن الذي أخذ عليهم الموثق ببيانه هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. وعن الحسن وقتادة أنه الكتاب الذي أوتوه، وهو الظاهر المتبادر، ويدخل فيه البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الأستاذ الإمام: وتبيينه هو أن يوضحوا معانيه كما هي، ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها، ومقاصده التي أنزل لأجلها، حتى لا يقع في فهمه لبس ولا اضطراب.

 

وههنا أمران: العلم بالكتاب على غير وجهه وهو نتيجة عدم البيان، وعدم العلم به بالمرة وهو نتيجة الكتمان. وقد يقال: إن الظاهر المتبادر في الترتيب هو أن ينهى عن الكتمان أولاً، ثم يأمر بالبيان لأن البيان إنما يكون مع إظهار الكتاب، فلماذا عكس؟ والجواب على هذا: أن القرآن قدم أهم الأمرين، لأن المخالفة في الأول - وهو الكتمان - تقتضي الجهل ا لبسيط، وهو الجهل بالدين. وفي الثاني: تقتضي الجهل المركب، وهو اعتقاد ما ليس بدين ديناً، والجهل البسيط أهون، لأن صاحبه يوشك أن يظفر بالكتاب يوماً، فيهتدي به، ويعرف الدين، وأما الجهل المركب - وهو فهمه على غير وجهه - فيعسر زواله بالمرة، فيكون صاحبه ضالاً مع وجود أعلام الهداية أمامه.

 

(قال) والعبرة في ذلك ظاهرة عندنا، وفي أنفسنا، فإن كتابنا - وهو القرآن العزيز - لم يوجد كتاب في الدنيا حُفظ كما حُفظ، ونُقل كما نُقل، ونُشر كما نشر، فإن الجماهير من المسلمين قد حفظوه عن ظهر قلب من القرن الأول إلى هذا اليوم، وهم يتلونه في كل مكان، حتى إنك تسمعه في الشوارع، والأسواق، ومجتمعات الأفراح والأحزان، وفي كل حال من الأحوال، ولكنهم تركوا تبيينه للناس، فلم يغن عنهم عدم الكتمان شيئاً فإنهم فقدوا هدايته، حتى إنهم يعترفون بأن المسلمين أنفسهم منحرفون عنه، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر - ويعترفون بأن الغش قد عم وطم، ويعترفون بارتفاع الأمانة، وشيوع الخيانة... الخ... الخ، وكل هذا من نتائج ترك التبيين.

 

(قال) ولهذه التعمية وهذا الاضطراب في فهم الكتاب أسباب، أهمها: ما كان من الخلاف بين العلماء من قبل، لاسيما في القرن الثالث، فقد انقسمت الأمة إلى شيع، وذهبت في الخلاف مذاهب في الأصول والفروع، وصار كل فريق ينصر مذهبه، ويحتج بالكتاب، ويأخذ ما وافقه منه، ويؤول ما خالفه، واتبعهم الناس على ذلك، ورضي كل فريق من المسلمين بكتب طائفة من أولئك المختلفين، حتى جاءت أزمنة ترك فيها الجميع التحاكم إلى القرآن وتأييد ما يذهبون إليه به، وتأويل ما عداه. (أقول: بل وصلنا إلى زمن يحرمون فيه ذلك، ولا يرون فيه للقرآن فائدة، تتعلق بمعناه، بل كل فائدته عندهم أنه يُتبرك به، ويتعبد بألفاظه، ويستشفى به من أمراض الجسد دون أمراض القلب والروح) حتى صرنا نتمنى لو دامت تلك الخلافات، فإنها أهون من هجر القرآن بتاتاً، فإن الناس قد وقعوا في اضطراب من أمر دينهم، حتى صاروا يحسبون ما ليس بدين ديناً، وحتى أن العلماء يرون المنكرات فلا ينكرونها، بل كثيراً ما يقعون فيها، أو يتأولون لفاعليها، ولو بينوا للناس كتاب الله لقبلوه. وأقول: إن الذين تصدوا لتبيين القرآن في الكتب - وهم المفسرون - لم يكن تبيينهم كاملاً كما ينبغي، وكان جمال الدين يقول: \"إن القرآن لا يزال بكراً) وإن لي كلمة مازلت أقولها وهي: أن سبب تقصير المفسرين الذين وصلت إلينا كتبهم هو عدم الاستقلال التام في الفهم، وما كان ذلك لبلادةº وإنما جاء من أمور أهمها: الافتتان بالروايات الكثيرة، وتغلب الاصطلاحات الفنية في الكلام، والأصول، والفقه، وغير ذلك، ومحاولة نصر المذاهب وتأييدها.

 

ثم أقول: إن البيان أو التبيين على نوعين:

أحدهما: تبيينه لغير المؤمنين به لأجل دعوتهم إليه.

 

وثانيهما: تبيينه للمؤمنين به لأجل إرشادهم وهدايتهم بما أنزل الله من ربهم. وكل من النوعين واجب حتم لا هوادة فيه، ولا يشترط فيه ما اشترط بعض الفقهاء من الاستفتاء والسؤال، إذ زعموا أن العالم لا يجب عليه التصدي لدعوة الناس وتعليمهم إلا إذا سألوه ذلك. والقرآن حجة عليهم، وهذه الآية آكد في الإيجاب من قوله - تعالى - في هذه السورة: ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)) [آل عمران/104] الذي تقدم تفسيره في هذا الجزء، فإن الأمر وإن كان هناك الوجوب، لأن الأصل فيه ذلك على قول جمهور الأصوليين. وأكد بقوله: ((وأولئك هم المفلحون))º إلا أن التأكيد فيه دون تأكيد أخذ الميثاق هنا وما فيه من معنى القسم، ثم ما يليه من تصوير ترك الامتثال بنبذ الكتاب وبيعه بثمن قليل، ومن الذم والوعيد على ذلك إذ قال: ((فنبذوه وراء ظهورهم)) النبذ: الطرح، وقد جرت كلمة: نبذه وراء ظهره مجرى المثل في ترك الشيء وعدم المبالاة به والاهتمام بشأنه، كما يقال في مقابل ذلك: (جعله نصب عينيه - أو - ألقاه بين عينيه) أي اهتم به أشد الاهتمام بحيث كأنه يراه في كل وقت، فلا ينساه ولا يغفل عنه، وفيه تنبيه إلى كون هذا هو الواجب الذي كان عليهم أن يقوموا به فيجعلوا الكتاب إماماً لهم ونصب أعينهم، لا شيئاً مهملاً ملقى وراء الظهر، لا ينظر إليه ولا يفكر في شأنه، وكذلك كان أهل الكتاب (منهم) الذين يحملونه كما يحمل الحمار الأسفارº فلا يستفيد مما فيها شيئاً، (ومنهم) الذين يحرفونه عن مواضعه (ومنهم) الذين لا يعلمون منه إلا أماني يتمنونها أي قراآت أو تشهيات يتشهونها...

 

ثم بين - تعالى - جريمة أخرى من جرائمهم في الكتاب فقال: ((واشتروا به ثمناً قليلاً)) أي: أخذوا بدله فائدة دنيوية قليلة لا توازي عشر معشار فوائد بيان الكتاب والعمل به، فكانوا مغبونين في هذا البيع والشراء وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرؤوسين وعكسه كما تقدم في سورة البقرة وفي هذه السورة ومنها ما يتقرب به العلماء إلى الحكام وأجور الفتاوى الباطلة، وسيأتي بعض التفصيل فيه والعبرة به.

 

الأستاذ الإمام: نبذوا الميثاق: لم يفوا به، إذا تركوا العمل بالكتاب، والثمن القليل الذي اشتروه به لم يبينه القرآن، لأنه ظاهر في نفسه ومعروف من سيرتهم، وهو عبارة عن التمتع بالشهوات الدنية واللذائذ الفانية، فكان أحدهم يجد في العمل بالكتاب والتزام الشريعة مشقة، فيتركه حباً في الراحة وإيثاراً للذة وأما التأويل والتحريف فقد كان لهم فيه أغراض كثيرة.

 

(منها): الخوف من الحكام والرجاء فيهم، فيحرف رجال الدين النصوص عن مواضعها المقصودة، ويصرفونها إلى معان أخرى ليوافقوا ما يريد الحاكم، فيأمنوا شره، وينالوه بره.

 

(ومنها): إرضاء العامة أو الأغنياء خاصة بموافقة أهوائهم لاستفادة الجاه والمال.

 

(ومنها): وهو الأصل الأصيل في التحريف - الجدل والمراء بين رجال الدين أنفسهم، لا سيما الرؤساء وطلاب الرئاسة منهم، فإن الواحد من هؤلاء إذا قال قولاً أو أفتى فأخطأ فأبان خطأه آخر ينبري لتصحيح قوله وتوجيه فتياه وتخطئة خصمه، وتأخذه العزة بالإثم، فيرى الموت أهون عليه من الاعتراف بخطئه، والرجوع إلى قول أخيه في العلم والدين.

 

(ومنها): الجهل، فإن المتصدي للتعليم أو الفتيا قد يجهل مسائل، فيتعرض لبيانها بغير علم، وإذا أبيح لمثل هذا أن يعلم للأسباب التي نعهدها من الرؤساء الذين يجيزون جهلة الطلاب بالتدريس ويعطونهم الشهادة بالعلم محاباة لهم فإنه يربي تلاميذ أجهل منه، فيكونون كلهم محرفين مخرفين، ويفسد بهم الدين (لا سيما إذا صاروا مقربين من الأمراء والحكام).

 

(ومنها) انقطاع سلسلة أهل الفهم والتبيين، وخبط الناس بعدهم فيما يؤثر عنهم من بيان وتأويل، وحمله على غير المراد منه، حتى بعدوا عن الأصل بعداً شاسعاً.

 

(قال): وانظر في حال المسلمين - الذين اتبعوا سنن من قبلهم - واعتبر بحال أهل الأزهر منهمº تر بعينيك كما رأينا، وتسمع بأذنيك كما سمعنا، وتفهم سر ما قصه الله من أنباء أهل الكتاب علينا.

 

أقول: ومما سمعه هو - وهو العجب العجاب - قول شيخ من أكبر الشيوخ سناً وشهرة في العلم في مجلس إدارة الأزهر على مسمع الملأ من العلماء. (من قال إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق) يعني أنه لا يجوز العمل إلا بكتب الفقهاء، فقال له الأستاذ الإمام - رحمه الله - تعالى -: من قال إنني أعمل في ديني بغير الكتاب والسنة فهو الزنديق، وقد ذكرنا هذه المسألة في المنار في زمنهما.

 

واعلم أنه لا مفسدة أضر على الدين، وأبعث على إضاعة الكتاب ونبذه وراء الظهر، واشتراء ثمن قليل به من جعل أرزاق العلماء ورتبهم في أيدي الأمراء والحكام، فيجب أن يكون علماء الدين مستقلين تمام الاستقلال دون الحكام، لا سيما المستبدين منهم، وإنني لا أعقل معنى لجعل الرتب العلمية ومعايش العلماء في أيدي السلاطين والأمراء إلا جعل هذه السلاسل الذهبية أغلالا في أعناقهم يقودونهم بها إلى حيث شاءوا من غش العامة باسم الدين، وجعلها مستعبدة لهؤلاء المستبدين، ولو عقلت العامة لما وثقت بقول ولا فتوى من عالم رسمي مطوق بتلك السلاسل. وقد انتهى الأمر بالرتب العلمية في الدولة العثمانية أن صارت توجه على الأطفال بله الجاهلين من الرجال، حتى قال فيها أحد علماء طرابلس الشام من قصيدة طويلة في سوء حال الدولة:

 

زمن رأيت به العجائب *** وذهلت فيه من الغرائب

 

زمن به الوهم السخيـف *** على عقول الناس غالب

 

أفلا تراهم جانبوا *** كسب المعارف والمآدب[1]

 

ورضوا بأوراق تُخـَ *** طٌّ خطوطها مثلَ العقارب[2]

 

يشهدن زوراً أن من *** هي باسمه نور الغياهب

 

علاّمة العلماء أو *** بلاّغ دولته المآرب[3]

 

ويكون أجهل جاهلٍ, *** ولما لها بالغش ناهب

 

ثم هزئ الناظم بعد ذلك بكساوى التشريف العلمية، وشبهها وهي على العلماء بالسروج (المزركشة) على الدواب (والسيور على القباقب) إلى أن قال:

 

ضحكت عليهم دولة هرمت وقاربت المعاطب

 

على أنه صار بعد ذلك من حملة هاتيك الأوراق، والمتزينين بتلك الكساوى الموشاة، والمتحللين بتلك الأوسمة البراقة الذين يسبحون بحمد السلطان معطيها بكرة وأصيلاً، ويضللون من يطلبُ إصلاح حال الدولة تضليلاً؟ فهل يوثق بعلم عالم مقرب من المستبدين أو بدينه؟!

 

إن علماء السلف كانوا يهربون من قرب الأمراء المستبدين أشد مما يهربون من الحيات والعقارب، ورووا في ذلك أخباراً وآثاراً كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"سيكون بعدي أمراء - زاد في رواية يكذبون ويظلمون - فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض\". الحديث رواه الترمذي وصححه النسائي والحاكم وصححه أيضاً البيهقي وفي معناه قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم يحدثونكم فيكذبونكم، ويعملون فيسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تُحسِّنوا قبيحهم، وتصدقوا كذبهم، فأعطوهم الحق ما رضوا به، فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد\". رواه الطبراني عن أبي سلالة، وله طرق أخرى، وإنما أوردناه لقوله فيه: \"يملكون أرزاقكم\".

 

ومنها حديث أنس المشهور: \"العلماء أمناء الرسل على عباد الله، ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم\". رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وكذا الحاكم في التاريخ وأبو نعيم في الحلية والديلمي في مسند الفردوس وغيرهم، ونازع السيوطي ابن الجوزي في وضعه فقال: إن له شواهد فوق الأربعين، فيحكم له على مقتضى صناعة الحديث بالحسن. [4]

 

ومنها حديث ابن عباس: \"إن أناساً من أمتي يتفقهون في الدين، ويقرءون القرآن، ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا\". قال السيوطي رواه ابن ماجه بسند رواته ثقات - وكذا ابن عساكر - ومن حديثه عند الديلمي: \"سيكون في آخر الزمان علماء يرغبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون\".

 

ومنه أيضاً عند أصحاب السنن الثلاثة وحسنه الترمذي: \"من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن\".

 

ومنها حديث معاذ بن جبل: \"ما من عالم أتى صاحب سلطان طوعاً إلا كان شريكه في كل لون يعذب به في نار جهنم\". أخرجه الحاكم في تاريخه والديلمي، وأخرج أبو الشيخ في الثواب والحاكم في التاريخ من حديثه أيضاً: \"إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين ثم أتى باب السلطان تملقاً إليه وطمعاً لما في يده خاض بقدر خُطاه في نار جهنم\". وأخرجه الديلمي من حديث أبي الدرداء بلفظ آخر.

 

وفي الباب أحاديث أخرى أوردها الحافظ السيوطي في كتاب خاص سماه (الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين) والآثار عن السلف الصالح في ذلك أكثر لظهور أمراء الجور في زمنهم وتهافت العلماء عليهم، منها قول حذيفة الصحابي الجليل: \" إياكم ومواقف الفتن. قيل وما هي؟ قال أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه. وقال أبو ذر الصحابي الجليل لسلمة ابن قيس: لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه وقال الأوزاعي الإمام المشهور: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً. (أي من عمال الحكومة) وقال سمنون العابد الشهير: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد، فيسأل عنه فيقال: عند الأمير، وكنت أسمع أنه يقال: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك، ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدَّرَك، مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم. اهـ. وقد أشار بقوله: وكنت أسمع... الخ إلى حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص\". رواه الديلمي في مسند الفردوس. أو إلى قول سفيان الثوري ليوسف بن أسباط. إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مراء، إياك أن تخدع فيقال لك: ترد مظلمة، تدفع عن مظلوم، فإن هذه خدعة إبليس اتخذها للقراء سلماً. [5]

 

أقول: \"يعنون بالقراء علماء الدين، يعني أن الشيطان يلبس على رجال الدين ما يلبسون، فيقول لهم ويقولون: إننا لا نريد بغشيان الأمراء والتردد عليهم إلا نفع الناس ودفع المظالم عنهم، وهم إنما يريدون المال والجاه بدينهم ويقل الصادق فيهم. وهكذا أضاعوا دينهم فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً.

 

وقد نظم كثيرون من ناظمي الحكم بعض هذه المعاني. ومن أحسن ما نظم في ذلك قول بعضهم:

 

قل للأمير مقالة *** لا تركنن إلى فقيه

 

إن الفقيه إذا أتى *** أبوابكم لا خير فيه

 

قال - تعالى -: ((فبئس ما يشترون)) أي هو ذميم قبيح لأنهم يجعلون هذا العرض الفاني بدلاً من النعيم الباقي في الآخرة، وكذا من سعادة الدنيا الحقيقية التي تحصل للأمة بمحافظة العلماء على الكتاب وتبيينه لها وإرشادها به إلى ما يهذب أخلاقها، ويعلي آدابها، ويجمع كلمتها، ويحول بينها وبين مطامع المستبدين فيها، حتى تكون أمة عزيزة قوية متكافلة متضامنة أمرها شورى بين أهل الرأي وأولي الأمر من أفرادها...

 

----------------------------------------

[1] - يعني بالمآدب الآداب.

[2] - هي البراءات السلطانية بالرتب العلمية التي تكتب بالخط المعروف بالديواني.

[3] - ومن ألفاظها (وارث علوم الأنبياء والمرسلين).

[4] - كذا قال، وفيه نظر. [التحرير].

[5] - لا يخفى أن الأحاديث التي استشهد بها أكثرها ضعيف. [التحرير]

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply