عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"صل صلاة مودع كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك وايأس مما في أيدي الناس تعش غنياً وإياك وما يعتذر منه\"(1).
نصيحة نبوية غالية ممن آتاه الله جوامع الكلم، فيها النجاة لمن عقلها ثم عمل بها، وفيها الراحة والسعادة في الدنيا والآخرةº لأنها كلها نور خرج من مشكاة النبوة، وما ذاق الناس مر الشقاء إلا بالإعراض عن هذا النور، واتباعهم زبالة أفكار البشر، ودعاة التقدم كما يسمون أنفسهم، فسادت حياتهم ظلمة لا خلاص منها إلا بنور الإيمان.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"صل صلاة مودع كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك\".
الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، ورأس القربات، وغرة الطاعات، وأعظم العبادات التي تصل بين العبد وربه، فلا خير في دين لا صلاة فيه، ولا خير في صلاة لا خشوع فيها. فالخشوع عماد الصلاة ومقصودها ولبها، وكما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته أعمال الصلاة الظاهرة من صفة ركوعها وسجودها وسائر أعمالها يبين لنا في هذا الحديث الجليل عماد الصلاة وأساسها الباطن ألا وهو: الخشوع.
(وأصل الخشوع هو لين القلب، ورقته، وسكونه، وخضوعه، وانكساره، وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع الجوارحº ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - دائماً ما يقول في ركوعه في الصلاة: \"خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي\"(2))(3)، وقال - تعالى -: قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) {المؤمنون: 1، 2}، وقال أيضاً: وقوموا لله قانتين 238 {البقرة: 238}. قال مجاهد: \"القنوت: الركود، والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله - عز وجل - \"(4)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: \"خمس صلوات افترضهن الله - تعالى - من أحسن وضوءهن، وصلاتهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه\"(5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه وفي رواية: لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه وفي رواية: إلا وجبت له الجنة \"(6)، وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله\"(7).
ولعظم أمر الخشوع كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائماً ما يستعيذ بالله من قلب لا يخشع فعن زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: \"اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها\"(8).
وأصل الخشوع الحاصل في القلب إنما هو من معرفة الله، ومعرفة عظمته وجلاله وكماله، فمن كان بالله أعرف فهو له أخشع، ويتفاوت الخشوع في القلوب بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية والإخبات لله والتواضع والانكسار، (9) قال - تعالى -: إنما يخشى الله من عباده العلماء 28 {فاطر: 28} وقد عاتب الله - تعالى - من لا تخشع قلوبهم من ذكره فقال - تعالى -: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق 16 {الحديد: 16} قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: \"ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين\"(10).
ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه مع فراغ قلبه من الخشوع كان ذلك خشوع النفاق، وهو الذي كان السلف يستعيذون منه كما قال حذيفة - رضي الله عنه -: \"إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع\" وقال الفضيل: \"كان يكره أن يرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه\"، ونظر عمر - رضي الله عنه - إلى شاب قد نكس رأسه فقال: \"يا هذا، ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر خشوعاً غير ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق\"، ورأت عائشة - رضي الله عنها - شباباً يمشون ويتماوتون في مشيتهم فقالت لأصحابها: \"من هؤلاء؟ فقالوا نساك، فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشي أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقاً\"(11).
حكم الخشوع:
الراجح في حكم الخشوع في الصلاة أنه واجب كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - - تعالى - º يقول: قال الله - تعالى -: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين 45 {البقرة: 45} وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين، والذم لا يكون إلا لترك واجب، أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع، ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة، أيضاً قوله - تعالى -: قد أفلح المؤمنون 1 الذين هم في صلاتهم خاشعون 2 والذين هم عن اللغو معرضون 3 والذين هم للزكاة فاعلون 4 والذين هم لفروجهم حافظون 5 إلا على\" أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين 6 فمن \\بتغى\" وراء ذلك فأولئك هم العادون 7 والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون 8 والذين هم على\" صلواتهم يحافظون 9 أولئك هم الوارثون 10 الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون 11 {المؤمنون: 1 11} فأخبر - - سبحانه - و - تعالى - - أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنةº وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم، وكذلك من لم يرفع رأسه في الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكنº لأن السكون هو الطمأنينة بعينها، فمن لم يطمئن لم يسكن، ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده، ومن لم يخشع كان آثماً عاصياً، ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإن حركته ورفعه هو ضد حال الخاشع\"(12).
هل يعتد بالصلاة الخالية من الخشوع؟!
قال جمهور العلماء: إنه لا يعتد بها في الثواب إلا بما عقل منها، وخشع فيها لله - تعالى - º وحجتهم الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: \"إن العبد يصلي الصلاة ما يكتب له م
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد