الغلو في الدين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فإن الله - سبحانه وتعالى - قد نهانا عن الغلو في الدين ونهانا عنه نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - فقال الله - تعالى -: \"يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفىبالله وكيلا\" {النساء: 171}، وقال - سبحانه -: \"قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل {المائدة: 77}، فنهى الله - سبحانه وتعالى - في هاتين الآيتين عن الغلو والإطراء(1)، وفيها موعظة لهذه الأمة حتى لا تقع في الغلو الذي أوجب غضب الله - سبحانه - على أهل الكتاب من قبلنا.

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في حصى رمي الجمار - قال: قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: \"...... إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين\" (2).

فالغلو: هو سبب الهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة.

معنى الغلو: هو مجاوزة الحد في الاعتقاد والتعبد والعمل والثناء قدحاً أو مدحاً والخروج عن الحد المشروع إلى ما ليس بمشروع والتشديد في ذلك والتعمق (3).

أقسام الغلو:

الغلو أربعة أقسام:

القسم الأول: الغلو في العقيدة:

مثل غلو أهل الكلام في الصفات حتى أدى بهم إما إلى التمثيل أو التعطيل، وأهل السنة والجماعة لم يغلو في ذلك بل أثبتوا ما أثبته الله عز وجل لنفسه أو أثبته له رسوله { من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يقولون: إن الله - سبحانه - ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (4).

فكانوا أمة وسطاً بين الذين شبهوا الله بخلقه وبين الذين عطلوا أسماء الله وصفاته فلم يثبتوها.

ومن أمثلة الغلو في العقيدة: غلو النصارى في المسيح حيث ادعوا أنه إله أو أنه ثالث ثلاثة أو أنه ابن الله - تعالى - الله عما يقولون علواً كبيراً، ومن ذلك غلو اليهود في سب عيسى - عليه السلام -وشتم أمه حتى أدعوا أنها زانية والعياذ بالله من هذه الافتراء وهو غلو في التفريط، والأول غلو في الإفراط فهذا هو الغلو في مدح الأشخاص وذمهم (5).

ومن الغلو في العقيدة: غلو عباد القبور في الأولياء والصالحين حتى عبدوهم من دون الله - عز وجل - ولهذا قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: \"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبدالله ورسوله\" (6).

القسم الثاني: الغلو في المعاملات: وهو التشديد بتحريم كل شيء، وقابل هذا التشدد تساهل من قال: يحل كل شيء ينمي المال والاقتصاد حتى الربا والغش.

والوسط أن يقال بحل المعاملات المبنية على العدل وهي ما جاءت بها النصوص من الكتاب والسنة (7).

القسم الثالث: الغلو في العادات:

وهو التشدد في التمسك بالعادات القديمة ولو كان غيرها خير منها.

أما إذا لم يكن غيرها خيراً منها أو كان مساوياً لها في المصالح فالبقاء عليها خيراً من الانتقال والتحول إلى العادات الوافدة (8).

القسم الرابع: الغلو في العبادة:

مثل غلو الخوارج الذين يرون كفر فاعل الكبيرة، وكغلو المعتزلة حيث قالوا: إن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين واتفقوا هم والخوارج على تخليده في النار يوم القيامة، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة حيث قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب.

والوسط هو مذهب أهل السنة والجماعة أن فاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته (3).

وينطبق هذا القسم على من فجر نفسه في بلاد المسلمين فقتل نفسه وقتل المسلمين والمعاهدين المستأمنين وقد قال الله - تعالى -: \"ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما {النساء: 93}.

ومخالفين لقوله - تعالى -: \"ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما\" {النساء: 29}، وقال - تعالى -: \"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة\" {البقرة: 195}، وقال - تعالى -: \"والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا {الأحزاب: 58}، وقال – صلى الله عليه وسلم -: \"المسلم من سلم المسلم من لسانه ويده\" (10)، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: \"من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِبَ به يوم القيامة\"(11) وقال – صلى الله عليه وسلم -: \"من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأبها في بطنه في نار جهنم خالد مخلداً فيها أبداً\"(12)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً\"(13)، وفي صحيفة علي - رضي الله عنه - \"ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس جميعاً لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً\"(14)، فكل من فجر نفسه في بلاد المسلمين ليقتل المسلمين أو المعاهدين فقد خالف هذه النصوص الصريحة من كلام ربنا - جل وعلا -، وكلام نبينا محمد  إذ إن الله - سبحانه - حرم عليه قتل نفسه فقتلها، وحرم عليه قتل المسلمين فقتلهم وآذاهم أشد الأذى، وحرم عليه قتل المعاهدين فقتلهم، وحرم عليه الغدر والخيانة فغدر وخان، وحرم عليه الظلم فظلم وطغى وسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل بل حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً، وكفر المسلمين، واستحل دماءهم وأموالهم.

وقال – صلى الله عليه وسلم -: \"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا (15) في شهركم هذا (16) في بلدكم هذا (17)\" (18) وقال – صلى الله عليه وسلم -: \"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر\" (19)، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: \"من حمل علينا السلاح فليس منا\"(20)، وقال – صلى الله عليه وسلم -: \"لا يشير أحدكم بالسلاح فإنه لا يدري لعلّ الشيطان ينزع في يديه فيقع في حفرة من النار\"(21) وكل ذلك من النبي – صلى الله عليه وسلم - حرصاً على أرواح الناس وحفظاً لدمائهم وأبشارهم فالظلم ظلمات يوم القيامة، وقال الله - عز وجل - في الحديث القدسي: \"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا\" (22)، فما أعظم هذا الدين لو تمسكوا به وطبقوه.

إن هؤلاء الذين يفجرون أنفسهم في بلاد المسلمين ليقتلوا إخوانهم المسلمين ينطبق عليهم ما ورد في الخوارجº إذ هم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.

وقد قابل هؤلاء الغلاة المجرمين غلاة آخرون أعظم إجراماً منهم وهم المنافقون الذين طعنوا في ديننا الحنيف بسبب هؤلاء فانكشفوا على حقيقتهم فعرفناهم في لحن القول كما قال - تعالى -: \"ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم {محمد: 30}.

وقد سماهم الله مجرمين في قوله - سبحانه -: \"إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون  وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون  وما أرسلوا عليهم حافظين {المطففين: 29 - 33}، وينطبق عليهم حديث حذيفة - رضي الله عنه - حيث قال: \"كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عن الخير وأسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن؟ وقلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم؟ قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك\" (23) وأما المنهج الوسط منهج أهل السنة والجماعة فلا إفراط فيه ولا تفريط ولا غلو ولا تنطع ولا تشديد ولا ظلم للناس سواء كانوا مسلمين أو معاهدين مستأمنين لا في أنفسهم ولا في أموالهم ولا في أعراضهم وهم يرون أن قتل الإنسان لنفسه من كبائر الذنوب حتى إن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قاتل نفسه، وإذا وقعت هذه المصائب عليهم استرجعوا وسألوا الله - سبحانه - الثبات ولم يزدهم ذلك إلا تمسكاً بدينهم ودفاعاً عنه.

فالوسطية هي التمسك بالدين وهي سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وأن نعض على ذلك بالنواجذ كناية عن شدة التمسك بها، وأن نطيع ولاة أمورنا في غير معصية الله، وأن لا ننزع يداً من بيعة وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن نرى كفراً بواحاً عندنا من الله فيه برهان ونستطيع أن نمنعه من غير حصول مفسدة أكبر منه وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فليست الوسطية ترك الدين أو ترك بعضه وليست الوسطية مشادة الدين ومغالبته والزيادة عليه وتحميل النفس فوق طاقتها، فديننا دين اليسر دين الحنيفية السماحة، دين رباني لا رهبانية فيه.

ومن وجهة نظري أرى أن من أهم أسباب هذه التفجيرات غلو هؤلاء في العبادة حتى كفروا المسلمين وولاة أمور المسلمين بالمعاصي ولم يعرفوا شروط التكفير ولا موانعه لجهلهم بالدين وبعدهم عن علماء المسلمين ولا أستبعد أن يكونوا مدفوعين من قبل الكفار وأذنابهم من العلمانيين الخبثاء.

وإن من أهم العلاج لهذه الظاهرة تكثيف المحاضرات الهادفة البناءة التي يتم التركيز فيها على توضيح العقيدة الإسلامية وبيان التكفير وشروطه وموانعه وحقوق الراعي والرعية والمعاهدين والذميين والمستأمنين وتوضيح عقيدة الخوارج ومنهجهم.

وكذا التركيز في تلك المحاضرات والنصائح على حث الشباب على طلب العلم وحث العلماء على التواضع لهم وحل مشاكلهم وعدم تركهم فريسة للأعداء وأصحاب المناهج الهدامة والأفكار الضالة والإنترنت وما يرد فيه من أكاذيب وأباطيل وأراجيف، فيحذرونهم من الحزبية المقيتة الضيقة، ومن الأحزاب والجماعات، ومناهجهم والفرق وضلالاتهم. إذ المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه، وليس الإسلام إلا ما كان عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فالاختلاف شر والتفرق مذموم، ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار، وما دام للمسلمين إمام فيحثونهم على لزوم جماعة المسلمين وإمامهم.

عصمنا الله وإياكم من الفتن وجعلنا وإياكم هداه مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم احفظ بلادنا الإسلامية من كل سوء وفتنة وشر اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمّر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه اللهم اجعل عملهم في رضاك واهدهم واهد بهم ويسر الهدى لهم وارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وتحذرهم من الشر برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

______________________________

الهوامش:

1- انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1-589).

2- رواه النسائي في كتاب مناسك الحج ( 5-268) باب التقاط الحصى (5-268) رقم 3057 وابن ماجه في كتاب المناسك أيضاً، باب قدر حصى الرمي رقم 3029 وقال الحافظ في الفتح ( 13-278 ) أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمه وابن حبان والحاكم من طريق أبي العالية عن ابن عباس.. أ. ه.

3- انظر الفتح ( 13-278 ) وتيسير الكريم الرحمن لابن سعدي ( 2-224 )، وشرح كشف الشبهات لابن عثيمين ص:(24).

4- كشف الشبهات لابن عثيمين ص:(24).

5- انظر المصدر السابق

6- رواه البخاري في كتاب الأنبياء - الفتح - (6- 478) برقم: (3445).

7- انظر شرح كشف الشبهات لابن عثيمين ص:(24،25).

8- انظر المصدر السابق.

9-انظر شرح كشف الشبهات لابن عثيمين ص:(24،25).

10- رواه البخاري في كتاب الإيمان - باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده - فتح الباري - بتحقيق عبد القادر شيبة الحمد - ( 169).

11- رواه البخاري في كتاب الأدب - الفتح - (10-465) برقم: (6047).

12- رواه البخاري في كتاب الطب - الفتح - (10-247) برقم: (5778).

13- رواه البخاري - في كتاب الديات - الفتح - (12-259) برقم: (6914).

14- رواه البخاري الفتح ( 13-275 ) برقم: (7300).

15- وهو يوم النحر.

16- وهو شهر ذي الحجة.

17- وهو مكة المكرمة

18- رواه البخاري - الفتح - ( 13-26 ) برقم: (7078).

19- رواه البخاري - الفتح - ( 13-26 ) برقم: (7076).

20- رواه البخاري رقم: (7070).

21- رواه البخاري رقم: (7072).

22- رواه مسلم في كتاب البر والصلة و الآداب صحيح مسلم بشرح النووي (16 - 131).

23- رواه البخاري في صحيحه برقم: (7084).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply