إلى من يتربص حين غفلة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله، وبعد:

هذه وقفات ولفتات من وحي قول ربنا  - سبحانه وتعالى -  في سورة القصص: \"وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفلَةٍ, مِّن أَهلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَينِ يَقتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِن عَدُوِّهِ فَاستَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعتِهِ عَلَى الَّذِي مِن عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيهِ قَالَ هَذَا مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ عَدُوُّ مٌّضلُّ مٌّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمتُ نَفسِي فَاغفِر لِي فَغَفَر لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ\".

 

المفردات:

أما (المدينة) فهي عاصمة فرعون، وقد ذكر بعض المفسرين أنها كانت (منفيس) قاعدة مصر الشمالية.

قوله: \"على حين غفلة\"، أي: في لحظة غفلة من الناس، وقالوا: هذه تكون بعد الظهر ووقت القيلولة، وقد تكون لحظة الغفلة من الناس غير هذه، وفي واقع الناس اليوم نجد أن الوقت ما بين الساعة الثامنة وحتى الظهر، وقت غفلة فالكل مشغول في عمله، أو مدرسته، ومن في البيوت من نحو النساء والذرية غافلون إما لانشغالهم بتدبير شئون البيت، أو بنوم، فموسى دخل المدينة في لحظة غفلة الناس فيها منشغلون عن ملاحظة بعضهم.

 

قوله: \"يقتتلان\"، أي: يتضاربان ويتعاركان، فالقتال يطلق على ما كان بالأيدي، وعلى ما كان بالأسلحة، والمراد هنا يقتتلان بالأيدي.

قوله: \"فوكزه موسى\" قيل: بعصاه، وقيل: بيده، والأقوى أنه بيده، وقد كان موسى  - عليه السلام -  رجلاً قوياً بلغ أشده واستوى.

 

قوله: \"فقضى عليه\" أي: قتله فمات.

 

وفي الآية وقفات كثيرة، منها:

 - سكت القرآن عن ذكر شباب موسى، فقد كان آخر العهد به طفلاً رضيعاً في بيت فرعون، قال المفسرون: وفي ذلك إشارة إلى أنه  - عليه السلام -  لمّا كبر وشب، علم أن فرعون طاغية ظالم، ففارق بيته ولم يعد فيه كما كان، ويدل على ذلك أمور:

* قوله تعالى: \"ودخل المدينة\" فهذا دليل على أنه فارقهم ولم يكن في بيت فرعون.

* قوله تعالى: \"على حين غفلة\" قالوا: ولو كان في بيت فرعون ما احتاج أن يدخل على حين غفلة، بل لدخل كما يدخل وزراؤه وسائر العلية من الملأ في أبهة وهيلمان.

* قوله تعالى: \"غفلة من أهلها\" قالوا: يدل على توجس ولو كان في بيت فرعون ما دخل متوجساً.

ولهذا قال بعض أهل العلم: يبدو أن موسى  - عليه السلام -  بدأ يعرف بمنهج مغاير لمنهج فرعون، من قبل النبوة والرسالة، فالرسالة ما جاءت إلاّ بعد مدين، وقبلها قال: \"ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين\" ثم جاء ذكر خبر قتل القبطي. فالحكم والعلم هنا غير النبوة على الصحيح، بل هو مما ورثه عن شريعة بني إسرائيل التي جاء بها يعقوب وغيره من أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، ولهذا دخل متوجساً.

 

قالوا: ولو كان في بيت فرعون لما كان في عداد المحسنين، إذ إن فرعون طاغية ظالم، والسكوت عنه والعيش في كنفه لا يليق بالمحسن.

وقالوا: من أدلة ذلك أيضاً استعانة الإسرائيلي به على القبطي، فلو لم يكن معروفاً بانحيازه عن فرعون وملئه لما دعاه لإعانته، بل ربما كان عوناً للقبطي على الإسرائيلي لو كان باقياً في بيت فرعون.

بل ذكر بعض أهل العلم مسألة لطيفة، قالوا: لو كان في بيت فرعون ما خاف من قتل القبطي، وقد جاءت بعض الروايات التي تفيد بأن القبطي طباخ في بيت فرعون.

فإن من في بيوت هؤلاء الظلمة لا يخافون من قتل شعب، فكيف بقتل طباخ؟

وهذا صحيح مشاهد ومذكور منذ القديم، ورغم تعاقب السنين لا يزال جارياً.

وما ذكروه له وجه، فموسى  - عليه السلام -  وهو السوي العاقل، لم يكن ليصبر على الباطل من أجل امتيازات يجدها في القصر لقربه من فرعون، فالمسلم لا يقر الظلم ولا يسكت عليه، فضلاً عن أن يتمتع بامتيازات الظالمين وتحكمهم في البلاد ورقاب العباد.

 - ومن الوقفات في الآية، ما يفعله أتباع الظالمين، تأملوا ظلم هذا القبطي، مع أنه مجرد طباخ، رجل في أدنى الخدمة في قصر الطاغية، مع ذلك يظلم الناس، أراد أن يستخدم لإسرائيلي كما ذكر المفسرون، ولهذا استغاث الإسرائيلي أي طلب الغوث والإنقاذ من موسى  - عليه السلام - .

فإذا كان هذا شأن طباخ عند بعض الظالمين، فما بالك بظلم من يتمتعون بكافة الامتيازات ممن أُسبغ عليهم رضوان الطاغية من أمثال قارون وهامان ونحوهما؟

إن الذي يتأمل ما تفعله الحاشية ويقترفه الملأ من أتباع الطغاة والظالمين يجد الشبه بين ما هم عليه وما كان عليه أولئك... إنها السنن! كيف كان صدام، وكيف كانت حاشيته وزبانيته؟ وليس صدام حالة فريدة، ولكنه مثال عُرض ما كان منه ومن أتباعه المقربين على رؤوس الأشهاد، بل هذا دأب الظالمين ودأب حاشيتهم وأتباعهم، وهذا ما نراه بين الفينة والأخرى واقعاً مشهوداً.

والعزاء للشعوب المكلومة المظلومة أن السنن قاضية بزوال الطاغين \"ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون\"، وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ألا فليعتبر المعتبرون \"إن في ذلك لآيات لأولي النهى\".

- ومن الوقفات أيضاً: خطورة الاستغراق في اللحظة الحاضرة، وأنبه هنا إلى أن موسى  - عليه السلام -  لم ينبأ بعد، فحمية موسى  - عليه السلام -  لهذا الرجل الإسرائيلي، ولما يلقاه هو وبني جنسه من ظلم من قبل هؤلاء الظالمين وأتباعهم، دفعه لجمع أمره على نصرته وجعل ذلك همه، فلم يتنبه إلى أن الضربة قد تكون قاضية، وأن العاقبة قد تكون وخيمة إلاّ بعد فوت الفوت.

 - ومن الوقفات كذلك: أنه إذا انتشر الظلم وعم، كان الناس أكثر قابلية للاستفزاز من قبل أفعال المتسلط الظالم، ولهذا نجد سرعة استجابة موسى للمظلوم، قال: \"فاستغاثه... فوكزه موسى\"، عقب بالفاء التي تدل على استعجال في الحالين، وهذا ملاحظ في واقع الناس اليوم في كثير من بلاد المسلمين.

ومن الوقفات المهمة التي أختم بها:

وأرجو أن تتأملوها ملياً..

القبطي كافر لا يؤمن بالله..

القبطي يعبد الطاغية فرعون..

كان القبطي ظالماً للإسرائيلي يريد أن يستخدمه..

موسى  - عليه السلام -  لم يقصد قتل القبطي..

موسى  - عليه السلام -  أراد أن يفعل خيراً ويرفع الظلم عن مظلوم..

ولكن قوة الدفعة قتلته!

كم من إنسان قد يقول: وماذا في ذلك.. القبطي مشرك.. يعبد فرعون.. ظالم.. فماذا في قتله! ولو قصد قتله؟

ونحن نقول: إن موسى  - عليه السلام -  لم يقصد قتله، ومع ذلك قال: \"هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين\".. \"رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي\".. \"فغفر له\".

وهذا دليل على أن ما وقع فيه –قبل النبوة - معصية، قد يقول قائل: إن الخطأ والنسيان لا يؤاخذ عليه الإنسان، فنقول: هذا لأمة محمد  - صلى الله عليه وسلم -  خاصة، كما ذكر غير واحد من أهل العلم،

ولهذا قال الله: \"فغفر له إنه هو الغفور الرحيم\"..

ومع أن موسى من أولي العزم من الرسل، ومع أن الله غفر له، ومع أن الله آتاه النبوة بعدها، ومع أن الله كلمه تكليماً، ومع أن الله خط له التوراة بيده، يعتذر موسى  - عليه السلام -  يوم القيامة عن الشفاعة فيقول كما في الصحيح: \"إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري\".

الأمر خطير أيها الأحبة! قارن بين ما يحدث في واقعنا اليوم واعرضه على هذه الآيات... أيقبل بعدها أن يأتي أناس يزعمون أنهم مصلحون! فيقتلون رجال أمن مسلمين، أو مستأمنين ومن خالطهم من المسلمين، بتأويلات غير سائغة، بل لا تعد شيئاً إذا عرضت على مثل حال ذلك القبطي المشرك الخالص.. عابد فرعون.. الظالم لقوم موسى.. المعين على حرب فرعون لهم...

ثم يأتي من يقول: إن هناك من هو معجب بما كان أو راض عن فاعليه سبحان الله! الله يقول: \"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً\"، وموسى ينكر على من هو أكثر صلاحاً، بل لا يقارن بالغالين من الشباب المندفعين أعني: الخضر  - عليه السلام -  فيقول: \"أقتلت نفساً زكية بغير نفس... \" \"لقد جئت شيئاً نكراً\"، ولكن الخضر حسم الأمر بقوله: \"وما فعلته عن أمري\" فليست الحجة تأويلات وظنون.

ثم يوجد بعد ذلك معجبون؟!

إخوتي الكرام.. إني عليكم مشفق ولكم محب ناصح فتأملوا.. الجهاد لا نشك في مشروعيته، بل إن من بشائر الخير عودة الأمة للجهاد، بعد أن غفلت عنه عقوداً، إلاّ عصبة ظلت وستظل باقية ظاهرة إلى قيام الساعة، الأمة الآن أدركت أن نجاتها بالجهاد، وأنه لا يمكن أن يخرج الأمريكان من العراق وأفغانستان، إلاّ بالجهاد، لن يخرج الروس من الشيشان إلاّ بالجهاد، لن يخرج اليهود من فلسطين إلاّ بالجهاد، والحلول السليمة وحدها لا يمكن أن تؤدي إلى هذه النتيجة، بل إن جهاد الطلب مشروع، وهو من أعلى القربات، ومن قصر الجهاد على جهاد الدفع فقط فقد أخطأ، ولكن لجهاد الطلب شروطه وضوابطه التي تحكمه وتنظمه.

والأمة - بحمد الله - أدركت كل هذا، ولكن الخطأ الذي حدث، هو أن بعضهم نقل الجهاد من موضعه الصحيح إلى غير موضعه، فالأعمال التي تقترف اليوم باسم الجهاد في بلاد المسلمين الآمنين ليست من الجهاد في شيء، وأي جهاد في قتل أنفس معصومة! وأنفس مفاسد قتلها أعظم من المصالح المتوخاة.

ولا يعني هذا أنه لا توجد أسباب قادت بعض المتحمسين إلى تلك الأفعال، بل الأسباب موجودة، توجد أخطاء، توجد تجاوزات، وهذه الأسباب تفسر أفعال التفجيرات ولا تبررها، وينبغي أن تراعى لاتباع أسلوب العلاج الأمثل لها.

إن أخشى ما أخشاه أن يشوه الجهاد عن طريق استغلال حماسة الشباب وعاطفتهم لإقحامهم في قتل نفوس أو فساد في الأرض بدعوى الجهاد.

هذا ما أحببت أن أنبه إليه وإلا فاستيفاء الكلام عن هذه الآيات يتطلب دروساً ودروساً، وأنصح كل واحد منكم أن يقف في خلوة أو مع زملائه، مثنى وفرادى، متفكرين في هذه الآيات، ناظرين فيما قاله العلماء وما قاله المفسرون حولها.

نسأل الله أن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعله حجة لنا، وصلى الله وسلم على نبينا، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply