بسم الله الرحمن الرحيم
ضج المكان بضحكات ابن السنتين المرحة، وهو يصعد فوق أريكة لا تبعد عن الأرض سوى سنتيمترات معدودة، فيتلفت حوله بعبث، ثم يحاول القفز منها مع صرخة تحدٍّ, مدوية سعيدة!
لكن والدته صاحت به والقلق يغشى محياها ألا يفعل ذلك، ورجته متوسلة أن ينزل ويأتي إلى حضنها، غير أن ذلك زاد ضحكاته المتأرجحة حبورا، فلم يكن منها إلا أن هبت فزعة مذعورة إليه، وضمته إليها بلهفة تعبر عن حرصها الشديد عليه، وخوفها البالغ الكبير.
أخذ الصغير يبكي باحتجاج، محاولاً التفلت من أمه ليمارس هواية \"تسلق المرتفعات!\" إلا أن ساعدي أمه وثقت يديه الصغيرتين بقوة وحزم.
تفكرت كثيرا في هذه الأم، وقد أطفأت – وهي لا تدري - ومضة تحد قد اشتعلت في دماء صغيرها، وقتلت خفقة مغامرة ونبضة إثارة كادت أن تنطلق.. لتجرب وتغامر وتتحدى وتستفيد، تستفيد من نجاح يضيف إلى ثقتها جبالا، أو من فشل يعضد في آمالها عمادا.
كثير من الوالدين يتصور أن تربية الأبناء تعني المحافظة عليهم من الأخطار، ووقايتهم والحفاظ عليهم وصيانة جانبهم، حتى ليود أن يحيط صغيره بغلاف واق ضد أي صدمة.. أو مغامرة.. أو خطر.. فإذا بالطفل ينشأ هشا ضعيفا، لا يكاد قوامه يركز على شيء، متكل الشخصية، واهنا، ضحلا كإسفنج رث.. والواقع المر – خاصة في المجتمعات الميسورة – يشهد بذلك في أبناء الجيل الجديد!!
أتخيل هذا الجيل الهلامي، في مستقبل الظروف العصيبة، حيث يحدق الخطر بالمنطقة وقد تداعت الأمم إلى قصعتها، أترونه قادرا على المقاومة والدفاع، والمواجهة والتحدي، والمغامرة والمخاطرة، ونحن الذين منعناه من القفز من فوق أريكة صغيرة في طفولته، فهدمنا كل ركيزة ثقة في نفسه، وأطفأنا كل ومضة مغامرة في دمه؟!
إن الإحباط ليغشى النفس، وهي ترى ابن السابعة عشرة، لا يعرف كيف يشعل نارا في خلاء، أو ينصب خيمة، أو يجمع حطبا، بل تكاد تضحك من البلية لما ترى ذعرا ترتعد منه فرائصه إذا ما رأى سلاحا أو لمس رصاصة، وهو الذي لم يعتد إلا على أسلحة وطلقات وقفزات ألعاب الفيديو و\"السوني\" وغيره من مجرمي الهمم وقاتلي الطاقات.
أيا أمتي! إننا إذا أردنا أن نصنع جيلا واثقا، قويا صلبا صامدا، فيجب علينا أن نفسح له مجالا لكي يجرب ويغامر، علينا أن نحمل صغارنا المسؤوليات، وأن نحرص على تنميته في كافة النواحي، دون تردد أو خوف أو تهاون.
علينا أن نغرس في عقيدته ثوابت لا تتزعزع، من الإيمان بالله والتوكل عليه، والالتجاء إليه في السراء والضراء، والإيمان بالقدر، وتفويض الأمر إلى الله بعد العمل بالأسباب، وتعويده على رفع كفيه إلى رب العزة متضرعا منيبا، سائلا مستغيثا، ولا ننسي ركيزة الصبر في أعماقه، وهي المحافظة على صلاة الجماعة، فإنها صخور تنتصب في نفسه انتصارا على الهوى، وقوة على المثابرة.
وعلينا أن نؤسس في فكره، أصول التفكير السليم والنظر العميق، في حال الأمم السابقة، وسنن الله في كونه، وأن البقاء ليس للأقوى ولكن للأصلح، وأن الله مع المتقين العاملين، مع علمه العلم القاطع بأن كفار الدنيا لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة!
وعلينا أن نؤسس في جسمه أسباب القوة والنشاط والصلابة، فينمي مهاراته الحركية بالقفز والحركة والجري والتسلق، ولا تبدوا له خشيتكم عليه وحرصكم الزائد، بل شجعوه ووجهوه وعضدوه، وإن سقط فهذا درس عظيم يتعلمه ليستفيد منه في قفزته التالية!
كما علينا أن نؤسس في نفسه قدرة على الصبر ومواجهة مع المشاق، فالحذر الحذر من انغماس الفتى في الترف والدعة، والدلال الجائر، واللهث وراء ملاذ الدنيا وشهواتها، فهذه القاصمة يا معشر الآباء والأمهات!
إن النعم لا تدوم يا قوم، ولئن عشنا حقبا من الزمن في جنات الأمن والراحة والسعادة، حتى صرنا نقابل النعمة بالبطر والكفران والمعصية، وصرنا نستبعد كثيرا أن يصيبنا الله بقارعة من أمم صارت لها السيادة بما أخلدنا إليه من أرض الهوان، وحينئذ.. لا ترى من أبنائنا إلا هشيم شجاعة، وركام قوة، فلنتدارك الأمر قبل فوات الأوان!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد