الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
إن نِعم الله علينا عظيمة.. أكرمنا بهذا الإيمان وأعزنا بالإسلام، وجعل لنا نوراً من القرآن، وجعل لنا بياناً من هدي الرسول العدنان - صلى الله عليه وسلم -. وإن ما يحتاجه المؤمن أن يعرف ثوابته، وأن يرجع إلى قواعده، وأن يبصر كل شيء يمر به في ضوء ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
إن بين أيدينا ما لا نضل به ولا نزيغ ولا نحتار معه، ولا نشك ولا نضعف في وجوده ولا نجبن، ويكون لنا منه كل أسباب القوة في الرأي وبيان الحق، وفي عزيمة النفس وشجاعة القلب، وفي ثبات الموقف وأصالة المواجهة.. ذلك يجعلنا نقف هذه الوقفات مع هذه الثوابت المهمة في حياة الأمة.
القاعدة الأولى: المرجعية الكلية
المرجعية الكلية الشاملة في كل شأن من الشؤون، وفي كل خطب من الخطوب، وفي كل حدث من الأحداث، ليس لنا من مرجع إلا كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -º فإن هذه المرجعية المطلقة الشاملة المعصومة بإذن الله - عز وجل - وبرحمته وحكمته من كل تحريف وتغيير وتبديل.. المستمرة في صلاحيتها في كل زمان ومكان.. المتضمنة لحلول كل المشكلات، وإجابة جميع التساؤلات، وتفريج جميع الكربات بإذن الله - سبحانه وتعالى - نحتاج إلى أن ننتبه إلى هذه المرجعية، فلا نحيد عنها، ولا نبحث عن الهدى في غيرها، ولا نرجع للبحث عن صحة الحق أو ثباته في شيءٍ, سواها: { فإن تنازعتم في شيءٍ, فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }.
وكما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي )، في كل الأزمان، وسائر الأعصار والأماكن والظروف والأحوالº لأن هذا هو النهج القويم الذي اختاره الله - عز وجل - للأمة الخاتمة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم –: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله }. ورسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - وهو يعظ الموعظة التي رقّت منها القلوب، ووجلت وذرفت منها الدموع وسُكبت، يخبر ويوفي ويؤكد وينبّه: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ).
فهل بعد هذه الوصية من وضوح وتأكيد وبيان وتنبيه إلى عدم مفارقة هذه المرجعية العظيمة؟ إنها مرجعية حق لا ضلال معها.
يقول الحق - سبحانه وتعالى -: { والله يقضي بالحق والذين من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير }.
وقد بيّنت لنا آيات الله - عز وجل - ذلك بياناً واضحاً: { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال }.
وقد خوطب رسولنا - صلى الله عليه وسلم - والخطاب له ولأمته من بعده: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون }.
إنها مرجعية حق، لا يمكن أن يكون الحق في غيرها بحال من الأحوال، لماذا؟ إنها شريعة الله.. إنها آيات الله.. إنها هدي الرسول الذي بعثه الله - عز وجل -.. { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }.. { أليس الله بأحسن الحاكمين }.. { فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين }.
تلك هي بعض صفاته التي تجعلنا نوقن بأن كل الهدى والخير والحق والنعمة والرحمة والحكمة فيما أتانا الله - عز وجل - من كتابه، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ألا له الخلق والأمر - سبحانه وتعالى -.
وإذا تأملناº فإن كل شيءٍ, يخرج بنا عن هذه الجادة.. إنما هو ضلال تضطرب به الأهواء.. تضطرب به الآراء، وتموج فيه الأهواء، ويكثر فيه الخصام، وينعدم فيه الوئام، كما أخبرنا الحق - سبحانه وتعالى -: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }.
فكل شيءٍ, غير ذلك إنما هو انحراف، كأن الأمة فيه - والعياذ بالله - قد تتصف بما اتصفت به الأمم المنحرفة من قبل ذلك مما أخبرنا الله به: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله }.
القاعدة الثانية: أمر الكمال
كمال مطلق في هذه المرجعية لا نقص معه.. لا شيء يشذ عنه، ولا أمر يخرج من دائرته شيءٌ يندّ عن قواعده الكلية، ونصوصه الشاملة: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }.. {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء }.
لكل شيء نجد قاعدة وأصلاً، وإشارة إلى القرآن من القرآن، أو من السنة، أو مما أجمعت عليه الأمة في قرونها الفاضلة، مما يستنبئ من القرآن والسنة، كما أخبر بذلك أهل العلم وبينوه. قال الشاطبي - يرحمه الله -: \" لم يمت رسول الله - صلى الله عليه والسلام - حتى كمّل الدين بشهادة الله – تعالى -: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم } \".
وفي صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حق عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم ).
ولئن كان ذلك في الرسل والأنبياء قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو به أحرى، وهو الذي قام به على أتم وأكمل وجه، فما من خير مطلقاً إلا أرشدنا إليه، وما من شر جملة إلا حذرنا منه - عليه الصلاة والسلام -. وذلك كمال ليس فيه تصادم، وليس فيه تعارض بين آيات القرآن بعضها مع بعض، ولا بين آيات القرآن وما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل هو انسجام واتفاق وتكامل في كل التشريعات والأحكام والقواعد: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا }.
وبذلك نستغني عن كل شيء، وعن كل مذهب، وعن كل قانون، مهما جُعلت له الأسماء، ومهما اجتمعت عليه الآراء، ومهما وقعت عليه الجماعاتº لأن عندنا ما نستغني به عن كل ذلك: { وما كان ربك نسيا }.
وقد جاء التحذير لنا والتنبيه في آيات القرآن نفسها ألا نحيد عن هذا الطريق وألا نخرج عن تلك الجادة: { يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله }.
استمع إلى التحذير المنفي على الإطلاق: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }.
قال ابن القيم - رحمه الله - في بيان ما قد يكون عندما يترك الشرع والمرجع إلى الكتاب والسنة، تُقدم آراء العقول وأهواء النفوس، قال: \" أصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل.. وكل من له مسكة من عقل، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على الشرع، وما استحكم الأمران - أي الرأي أو الهوى - في أمة إلا فسد أمرهم تمام الفساد. فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق، وأثبت بها من باطل، وأميت بها من هدى، وأحيي بها من ضلالة \".
وذلك هو الذي يقع عندما لا نرجع ولا ننقاد إلى كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل مُعرضٍ, عن ذلك متعرض لسلب صفة الإيمان عنه، ودخوله في دائرة النفاق: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }.
فمن قدم واختار فكأنما نقض من أصل إيمانه وقاعدته واستمع لقول الله - عز وجل -: { إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا }.
وأما أهل النفاق فقد وصفهم الله - عز وجل -: { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضون }.
هذا هو الإعراض الذي حذرنا الله - عز وجل - منه.. هذه أصول تلك المرجعية كما ذكرها أهل العلمº أولها: كتاب الله الذي هو خير الكلام وأصدقه فلا يقدمون على كلام الله كلام أحد من الناس.
والثاني: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أُثر عنه من هدي وطريقة لا يقدمون على ذلك هدي أحد من الناس.
والثالث: ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل ظهور البدع والمقالات، وما جاءهم بعد ذلك مما قاله الناس وذهبوا إليه، ووزنوه بهذه الأصول الثلاثة، وأرجعوه إليها فهذه قضية ثابتة، ومرجعية كلية كاملة، هي إحدى عواصم كل مسلم من كل فتنة بإذن الله - عز وجل -.
القاعدة الثالثة: الحرمة العظيمة
لهذا الدين العظيم.. لكتاب الله - عز وجل – الكريم.. لرسول الهدى - عليه الصلاة والسلام -، بل والحرمة العظيمة للمسلم المؤمن الذي يؤمن بالله، ويؤمن برسوله - عليه الصلاة والسلام - المسلم المؤمن له حرمة عظيمة في كل شيء يتصل به، وفي كل أمر يتعلق به ليس بمجرد إزهاق نفسه، أو قتله فذلك من أعظم الجرم وأشد ما ورد فيه الوعيد: { ومن يقتل مؤمن متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً }.
وذلك من الوعيد المغلظ المشدد، الذي لم يرد في القرآن له مثيل إلا فيما هو أجّل من هذا وأعظم، وإذا تأمل الإنسان المؤمن يرى أن كتاب الله - عز وجل -، وهذا الدين قد حمى جناب المسلم حماية عظيمة، ليس في دمه فحسب، بل في دمه وماله وعرضه، بل حتى فيما هو أقل من ذلك أليس قد قال رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يتناجى اثنان دون الثالثº فإن ذلك يُحزنه ).
بمجرد إدخال الحزن على المسلم جاء النهي لئلا يكون على هذا المسلم شيء يزعجه أو يضره أو يؤذيه: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً }.
وفي حديث البراء في سنن ابن ماجة بسند صحيح رجاله موثوقون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( لَزوال الدنيا أهون على الله - عز وجل - من قتل امرئٍ, مسلم بغير حق ).
المؤمن قدره عظيم، وفي السنن عند ابن ماجة أيضاً بسند تكلم فيه أيضاً بعض أهل العلم، عن عبد الله بن عمر بن العاص أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالكعبة ثم خاطبها فقال: ( إني لأعلم عظمتك وحرمتك عند الله - عز وجل - وإن حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمتكِ ).
وهذا دليل على تعظيم حرمة المسلم، وكما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بموجب حكم الشريعة: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والترك لدينه المفارق للجماعة )، لا يحل دم امرئ مسلم بحال من الأحوال.
و عن الافتراء عليه يعد ذلك من أعظم الذنوب والآثام الذي تتعرض بها الأمة، ويتعرض بها الخلق لسخط الجبار - سبحانه وتعالى - وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في أحاديث كثيرة: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كُفر ).
وفي حديث أسامة في صحيح الإمام مسلم في قصة الرجل حينما بعث النبي - عليه الصلاة والسلام - بعثاً للحروقات، قال أسامة: فأهويت بسيفي على رجل من المشركين فقال: لا إله إلا الله. قال فأهويت عليه بسيفي فقتلته، فأخبرت بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله )º فإنه كان بمزيتك بعد أن يقولها. ثم في رواية أخرى قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ( أفلا شققت عن قلبه فعرفت ما فيه ).
مما يدل على ذلك كثيراً ما ورد أيضاً في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا دخل أحدكم وفي يده سهم فليأخذ بنصالها ).
لئلا يؤذي إخوانه المسلمين بمجرد الإشارة ورد في صحيح مسلم: ( من أشار على أخيه بحديدة - أي ولو على سبيل المداعبة تهديداً له – لعنته الملائكة ).
نسأل الله - عز وجل - السلامة. فهذه قاعدة مهمة في الحرمة العظيمة للمسلم.
القاعدة الرابعة: في المنزلة العظيمة لأمة الإسلام
وأنها لابد أن تكون الأعلى والأسمى، وأن لا تُعطي الدنية في دينها، وألا تخالف أمر ربها، وألا تضعف ولا تجبن أمام أعدائها، وألا تذل لخصومها، وألا تمالئ وتوالي وتعادي على غير منهج ربها ودينها، والله - سبحانه وتعالى - قد جعل ذلك سنة ماضية في حال تمسك الأمة بدينها، واستمساكها بإسلامها، واعتصامها بربها - سبحانه وتعالى -: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً }.
وتأمل الآية فإنه يقول: { للكافرين على المؤمنين }º فإن كانت الأمة مؤمنة إيماناً صادقاً خالصاً، لم يكون لأهل الكفر سبيلٌ عليها ولا علوٌ عليها بإذن الله عز وجل: { يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبينا }.
أتتعرضون لسخط الله - سبحانه وتعالى - ولمضاء سنته عليكم بإدانة الكافرين عليكم، وتسلطهم عليكم، إذا أنتم خالفتم أمره في أمر العقيدة الإيمانية، والموالاة الإسلامية: { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبينا }.
بل والقضية مرتبطة كما قلنا بأصول هذا الدين إيماناً ثابتاً أو نفاق والعياذ بالله: { بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا }.
فقد أخبرنا الله - عز وجل - بذلك في آيات كثيرة واضحة، فيما يدل على عظمة هذه الأمة ومنزلتها الرفيعة السامية بإيمانها.. بإسلامها.. بكتاب ربها.. بهدي رسولها.. باعتزازها بدينها.. بانتسابها لسلفها.. بكل هذه المعاني تكون لها تلك المكانة السامية العالية: { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }.
وفي سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك في المواقف الكثيرة، بل وفي تاريخ أمة الإسلام مواقف قد سبق وأن أشرنا إلى كثير منها في عزة إيمانية، واستعلاء إسلامي، وقوة في كل موقف من المواقف، رغم أنها كانت فترات أو مرت بها فترات لم يكن بين أيديهم من أسباب القوة المادية الدنيوية شيء يُذكر في مواجهة أعدائهم، وذلك يدلنا على أن هذه المنزلة إنما هي بذلك الاعتصام بكتاب الله، وسنة رسول الله، والحرص على وحدة الأمة، والتلاحم فيما بينها والمؤازرة والمناصرة فيما بينها حتى تتأهل لرحمة لله، وحتى تكون ممن يستحقوا العزة والقوة والسيادة في هذه الحياة الدنيا: { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون }.
نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا بكتابه مستمسكين ولهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، ونسأله - عز وجل - أن يعزّنا بالإسلام، وأن يعزّ الإسلام بنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
إن حاجتنا ماسة إلى كثير وكثير من هذه القواعد والثوابت، التي نعرفها في ضوء كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
القاعدة الخامسة: العداوة الشديدة
العداوة الشديدة التي بيّن الله - عز وجل - لنا أنها تملأ قلوب أهل الكفر على أهل الإسلام والإيمان، وإن لم يكن ثمّة مواجهة أو معاداة أو أحداث بعينهاº فإن الله - سبحانه وتعالى - كما مرّ بنا قد قضى أمره، واقتضت حكمته أن يكون الصراع بين الحق والباطل باقياً ما بقيت هذه الدنيا، حتى تقوم الساعة على شرار الخلق، كما أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم -.
تأمل آيات القرآن، وكم نحن بحاجة إلى أن نعود لكتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليس عوداً بما ننادي به، ونناشد به أقوالاً، وإنما ارتباط وتدبر وعمل واستمساك، وعودة نعيد بها الحياة إلى قلوبنا، والعزّة إلى نفوسنا، والهدى والرشاد إلى عقولنا، والتلاحم والتآزر بين صفوفنا، والمعرفة والبصيرة بحياتنا، والكشف والبيان لأعدائنا.. بحاجة إلى كل ذلك وهو بين أيدينا: { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون }.
آيات تتلى إلى قيام الساعة.. حقائق بينة ساطعة.. عبارات واضحة ناصعة { إن يثقفوكم.. } إن يجدوكم في كل حال، وفي كل زمان وفي كل مكان.. { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } لابد أن نوقن ونصدّق بكتاب ربنا، وليس شيءٌ غيره، وليس قولٌ غيره، وليس رأيٌ غيره، وليس أي شيء مما يمكن أن نسمعه، أو أن نراه في هذه الدنيا التي اختلطت فيها الآراء واضطربت، وماجت فيها الأهواء، وظلّ فيها كثير من الناس، وحارت كثير من العقولº لأنها لم تستمسك بهذا الهدى العظيم الذي أكرمنا الله - سبحانه وتعالى - به، وصيغة المضارع الدالة على الاستمرار كثيراً ما ترد في مثل هذه المعاني المتعلقة بالكفار:: { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون }.
صيغة مضارعة تدل على الاستمرار الدائم، بل كما قال الحق - جل وعلا -: { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة } أي لا يرقبون عهداً، ولا يرقبون ذمة.. {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون }.
والآيات تكشف كشفاً عظيماً واضحاً بيناً: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا }.
أليست هذه آيات واضحة تبيّن لنا الحقائق؟ فما بالنا لا نرجع إليها أو ما بالنا نبحث عن غيرها، أو ما بالنا نضطرب عندما يمر بنا ما يناقضها أو يعارضها: { ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا }.
والقواعد والثوابت كثيرة، ذكرنا المهم منها فيما نحتاج إليه في واقعنا، وفيما نحتاج إلى أن نستبصر به، وأن نعرف في ضوئه ما يمر بنا، وأن نكون دائماً أثبت جناناً، وأرسخ يقيناً، وأمضى عزيمة، وأعلى همة، وأسمح رأساً، وأعز موقفاً في كل حادثة من الحوادث، وخطب من الخطوب، و إذا استمسكنا بكتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله معنا الله - جل وعلا - رب الأرباب، وجبار السماوات والأرض، من بيده كل شيء، من أمره بين الكاف والنون، من كسر الكياسرة، وقصر القياصرة، وأغرق فرعون وقلب قرى قوم لوط.. معنا الله - جل وعلا -: { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }.
أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في ذلك الموقف الشهير الدقيق في يوم الهجرة: ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ).
الله - عز وجل - قد وعد ووعده حق وصدق: { إن الله يدافع عن الذين أمنوا }.
نحتاج إلى أن نحيي هذا الإيمان في قلوبنا، وأن نتمسك بقوة وعزيمة ومضاء بنهجنا وديننا وعقيدتنا، وأن نحيي معاني أخوتنا وتآلفنا وتآزرنا ونصرتناº فإن فعلنا ذلك فنحن جديرون بأن نكون خير أمة أخرجت للناس، ونكون حينئذٍ, أقوى الأمم وأعزها، وإن كان ليس بين أيدينا شيء من أسباب القوة المادية، فنحن نعلم تماماً أن القوة في مقياسها التي قد أوضحناها من قبل، إنما هي قوة الإيمان والاعتقاد.. قوة الوحدة والارتباط.. قوة الصلاح والاستقامة.. قوة التضرع والدعاء، ثم بعد ذلك قوة الساعد أو السلاح أو القوة المادية. نسأل الله - عز وجل - أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيها أهل طاعته، ويذل فيها أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد