مِنَ السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم القيامة شابُّ نشأ في طاعة الله ، فهل المقصود بذلك الوصف شابُّ عاش شبابه بدون أي ذنوب ؟
و ماذا عن الشباب الذين أمضوا شبابهم و هم يُصلٌّون و يؤدون الفرائض و النوافل ، و لكنهم يُذنبون ثم يتوبون ثم يذنبون فيتوبون المرّة تِلوَ المرّة ، و يعيشون في عراك دائم مع النفس ، هل هم من هؤلاء الشباب اللذين يظلّهم الله تعالى في ظلّه ؟ و كيف نستطيع أن نكبح جماح النفس الضعيفة التي نتعارك معها فتارة نغلبها وتارة تغلبنا حتى تُقلع عن الذنوب بالكلّيّة ، و ننال القبول و الرضى من الله تعالى ؟
روى الشيخان و الترمذي و النسائي و مالك و أحمد عَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه- عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « سَبعَةٌ يُظِلٌّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَومَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلٌّهُ الإِمَامُ العَادِلُ ، وَ شَابُّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجتَمَعَا عَلَيهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتهُ امرَأَةٌ ذَاتُ مَنصِبٍ, وَجَمَالٍ, فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخفَى حَتَّى لاَ تَعلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَت عَينَاهُ » .
و الظاهر من الحديث أنّ الشابّ الذي يستحق هذه المكانة الرفيعة ، هو الذي نشأ في عبادة الله منذ نعومة أظفاره ، و فيه حثُّ للشباب على الإقبال على الله تعالى في مقتبل العمر و ريعان الشباب ، و خصّهم بذلك لأنّ سنّ الشباب قد يُغري بمواقعة المعاصي و اقتراف الذنوب ، نظراً لما يغلُب على المرء من التسويف ، و ما قد يُتاح له من الأسباب المؤدية إلى المعاصي أو المعينة عليها ، كالصحّة ، و الفراغ .
روى البخاري و الترمذي و أحمد عَنِ عبد الله بنِ عَبَّاسٍ, - رضي الله عنهما- قَالَ : قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم- : « نِعمَتَانِ مَغبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، الصِّحَّةُ وَ الفَرَاغُ » .
و من المقرّر عند أهل العلم أنّه لا عِصمةَ إلا للأنبياء - عليهم الصلاة و السلام- ، فلا يُعقَل أن يوجد شاب ( أو غير شابّ ) لا يقارف الذنوب على الإطلاق ، لأنّ بني آدَم خطّاؤون لا محالة .
روى الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسناد صحيح عَن أَنَس بن مالك أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « كُلٌّ ابنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ » .
و روى مسلم و أحمد عَن أَبِي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- : «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو لَم تُذنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بكُم وَلَجَاءَ بقَومٍ, يُذنِبُونَ فَيَستَغفِرُونَ اللَّهَ فَيَغفِرُ لَهُم » .
فالعبد لا محالةَ واقع في الذنوب ، سواءً كان ذلك في شبابه أو مشيبه ، و الموفّق من وفّقه الله تعالى لتدارك نفسه بالتوبة ، فإن تاب و ندم عمّا اقترفت يداه ، و أقلع عن ذنبه ، عازماً على عدم العودة إليه ثانيةً ، فقد أتى بما أوجبه الله عليه ، و نرجوا أن يكون ممّن يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّّّه .
أمّا إن عاد إلى الذنب ثانيةً فعليه أن يتوب من جديد ، و لا يقنط من رحمة الله ، لأنّ الله يغفر الذنوب جميعاً .
قال تعالى : ( قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ ) .
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله- : ( هَذِهِ الآية الكَرِيمَة دَعوَة لِجَمِيعِ العُصَاة إِلَى التَّوبَة والإنابة وَإِخبَارٌ بِأَنَّ اللَّه - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَغفِر الذٌّنُوب جَمِيعًا لِمَن تَابَ مِنهَا وَرَجَعَ عَنهَا وَإِن كَانَت مَهمَا كَانَت وَإِن كَثُرَت وَكَانَت مِثل زَبَد البَحر ) .
و روى البُخَارِيّ في سبب نزولها عَن اِبن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّه عَنهُمَا- أَنَّ نَاسًا مِن أَهل الشِّرك كَانُوا قَد قَتَلُوا فَأَكثَرُوا وَ زَنَوا فَأَكثَرُوا فَأَتَوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا : إِنَّ الَّذِي تَقُول وَ تَدعُو إِلَيهِ لَحَسَنٌ لَو تُخبِرنَا أَنَّ لِمَا عَمِلنَا كَفَّارَة فَنَزَلَت .
وَ روي عن عبد الله بن مَسعُود - رضي الله عنه- أنّه قال : إِنَّ أَكثَر آيَة فِي القُرآن فَرَحًا ( قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِي أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسهم لا تَقنَطُوا مِن رَحمَة اللَّه ) .
و روى أحمد عن عَمرو بن عَبَسَة - رَضِيَ اللَّه عَنهُ- قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ- شَيخٌ كَبِيرٌ يَدَّعم عَلَى عَصًا لَهُ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ لِي غَدَرَاتٍ, وَفَجَرَاتٍ, فَهَل يُغفَرُ لِي ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ- : ( أَلَستَ تَشهَد أَن لا إِلَه إِلا اللَّه ) ؟ قَالَ : بَلَى وَأَشهَد أَنَّك رَسُول اللَّه فَقَالَ - صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ- : ( قَد غُفِرَ لَك غَدَرَاتُك وَفَجَرَاتُك ) تَفَرَّدَ بِهِ أَحمَد ، و روى نحوه المنذري في الترغيب و الترهيب بإسناد صحيح .
و قَالَ اِبن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّه عَنهُمَا- : مَن آيَسَ عِبَاد اللَّه مِن التَّوبَة فَقَد جَحَدَ كِتَاب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ- ، وَ لَكِن لا يَقدِر العَبد أَن يَتُوب حَتَّى يَتُوب اللَّه عَلَيهِ .اهـ .
قلتُ : ما دام العبد يُحدث من كلّ ذنبٍ, توبةً ، و لا يُصر على التفريط في جنب الله ، فهو أهل لعفو الله و مغفرته ، و الله تعالى ( هو أهل التقوى و أهل المغفرة ) .
و الحمد لله ربّ العالمين .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد