فتنة الغربة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:

إن الـبـدء بالحديث عن هذه الفتنة يأتي من كونها نتيجة تراكم مجموعة من الفتن تنشأ الغربة بسبـبـهــا، ويحسن بنا في بداية الكلام عن هذه الفتنة أن نتطرق لحديث الغربة والغرباء الذي ثبت عــن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة طرق، ثم نعرج على كلام السلف في شرحهم لهــذا الحديث، ونختم الموضوع بذكر بعض مظاهر الفتنة في عصور الغربة وخاصة في زماننا اليوم.

روايات حديث الغربة:

1- عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قـــال رسول الله: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) قـــال: قـيــل:ومــــن الغرباء؟ قال: (النّزّاع من القبائل)(1).

2- عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الإسـلام بدأ غريباً وسيعـود غريباً كما بـدأ غريباًº فطوبى للغرباء) قيل: ومـن هـم يا رسول الله؟ قال: (الذين يُصلِحون إذا فسد الناس)(2).

3- عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الإســـلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها)(3).

4- عن عبد الله بن عمرو بن العـاص (رضي الله عنهما) قـال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ونحن عنده: (طوبى للغرباء) فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: (أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)(4).

من خـــــــلال هذا السرد للروايات الصحيحة لحديث الغربة يتضح لنا وصف حال أهل الغربة، وأنـهـم نُزّاع من القبائل، وهذا يشير إلى قلتهم، وأنهم يُصلِحُون إذا فسد الناس، وأنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.

وتدلنا هذه الأوصــاف المذكورة للغرباء أنهم أهل غيرة ودعوة وإصلاح ولم يكونوا صالحين يائسين مستسلمين لواقـعـهـــم الفاسد، كما تدلنا هذه الروايات على بقاء المصلحين مهما اشتدت الغربة ولو كانوا قلة ونزاعاً من القبائل. ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحق حتى يأتي أمر الله (عز وجل).

ولـذلـك ـ والله أعلم ـ صدّر الإمام الهروي، (رحمه الله تعالى) منزلة الغربة بقوله (تعالى): ((فَلَولا كَـــانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُوا بَقِيَّةٍ, يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّن أَنجَينَا مِنهُم)) [ هود: 116].

وقال ابن القيم (رحمه الله تعالى) في شرحه لمنازل السائرين عند هذه الآية: (استشهاده، ـ أي: مؤلــف كتاب منازل السائرين ـ بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآنº فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية)(5).

من أقوال السلف في الغربة وأهلها:

- قال الأوزاعي (رحمه الله) في قوله: (بدأ الإسلام غريباً...) الحديث: أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد)(6).

- وقال يونس بن عبيد (رحمه الله تعالى): (ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها)(6).

- وعن سفيان الثوري (رحمه الله تعالى) قال: (استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء)(6).

- وقال ابــن رجب (رحمه الله تعالى): (وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما)(7).

وقد شرح حديث الغربة هذا أئمة أجلاء منهم شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى) في [مجموع الفتاوى: 18/251]، والإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) في [منزلة الغربة: 3/194] والإمام الشاطبي (رحمه الله تعالى) في كتابه النفيس (الاعتصام): 1/97 والإمام ـ ابن رجب ـ (رحمه الله تعالى) في كشف الكربة فليرجع إلى هذه الشروحات ففيها فوائد جمة.

وخلاصة ما قاله الأئمة حول الغربة وأهلها:

1- أن الغربة المطلقة في كل الأرض لا تكون إلا قبيل قيام الساعة، أما قبل ذلك فلن تخلو الأرض من قائمين بالحق ولو كانوا قلة، ولكن قد توجد غربة تامة في مكان دون مكان وفي جانب من الشريعة دون جانب. والله أعلم.

2- أن أهل الغربة الممدوحين في كل مكان وزمان هم الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة المتمسكة بالكتاب والسنة وفَهمِ الصحابة (رضي الله عنهم) والتابعين لهم بإحسان.

3- أهل الغربة في كل مكان قليلون ولكن أثرهم على الناس عظيمº لأن من أهم أوصافهم أنهم يدعون إلى الله (عز وجل) ويصلحون ما أفسد الناس ويجددون لهم دينهم.

4- المخالف لأهل الغربة كثير، والأذى الذي يتعرضون له عظيمº لكنهم ـ بالحق الذي يحملونه، والمهمة الشريفة التي يؤدونها، والصبر الجميل الذي يتحلون به ـ ثابتون مطمئنون.

5- في حديث الغربة معنى لطيف أشار إليه شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى) بقوله: (وهو لما بدأ غريباً لا يُعرف ثم ظهر وعرفº فكذلك يعود حتى لا يُعرف، ثم يظهر ويُعرف)(8).

وفي هذا رد على من يفهم من أحاديث الغربة انحسار الإسلام وعدم الأمل بعودته، وهذا ما يفهمه كثير من اليائسين من هذا الحديث، وفي كلام شيخ الإسلام السابق رد على هذا الفهم الخاطئ، وذلك أن الإسلام إذا عاد غريباً كما بدأ، فإنه سيعود قوياً ظاهراً كما حصل ذلك بعد غربة الإسلام الأولى.

وهذا الفهم الصحيح هو الذي تشهد له أحاديث صحيحة كثيرة منها قوله: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)(9)، وقوله: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مـدر ولا وبر إلا أدخله الله هـذا الدين بعـز عزيـز أو بذل ذليل: عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)(10).

6- الغربة في شدتها وعظم أجر أهلها ليست على رتبة واحدة وإنما هي متفاوتة، فهناك غربة أهل الإسلام بين أهل الأديان الكافرة، وأشد منها غربة أهل السنة والإيمان بين أهل الإسلام والفرق الضالة من أهل القبلة. وأشد منها غربة أهل العلم بين عامة أهل السنة. وأشد منها غربة العلماء المجاهدين الصابرين بين أهل العلم القاعدين. وهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن القيم رحمه الله (تعالى): (هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم) وهم الذين قال عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إن من ورائكم أياماً: الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله أوَ منهم؟ قال: بل منكم)(11).

7- أهل الغربة وإن كانوا قلة فهم السعداء حقاً ولا وحشة عليهم، وإن خالفهم أكثر الناسº فحسبهم راحةً وطمأنينةً أنهم في قافلة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

مظاهر الغربة في زماننا اليوم:

يمكن إجمال أهم مظاهر الغربة في الأزمنة الحاضرة اليوم فيما يلي:

1- غربة في العقيدة، فلا يوجد مَن هو متمسك بعقيدة السلف من جميع جوانبها إلا القليل من الناسº حيث تنتشر الخرافة والشركيات والبدع في أكثر بلدان المسلمين.

2- غربة في تطبيق الشريعة والتحاكم إليها، فلا يُحكم اليوم في أكثر بلدان المسلمين إلا بأحكام الإفرنج الكافرة.

3- غربة في الالتزام بأحكام الإسلام، سواء ما كان منها بين العبد وربه، أو بين العبد وبين الخلقº فلا يوجد الملتزم بها إلا القليل.

4- غربة في السلوك والأخلاق الفاضلة، وتزامن ذلك مع انفتاح الدنيا وكثرة الشهوات.

5- غربة أهل الحق ودعاة الإسلام، وتسلط الأعداء عليهم، وإيذاؤهم لهم بأشد أنواع الأذى والنكال.

6- غربة في عقيدة الولاء والبراءº حيث مُيّعَت هذه العقيدة عند كثير من الناس، وأصبح ولاء أكثرهم وحبهم وبغضهم للدنيا فحسب.

7- غربة في أهل العلمº حيث قلّ أهل العلم الشرعي الصحيح، وانتشر الجهل وكثرت الشبهات وقلّ العاملون بالعلم والداعون إليه.

مظاهر الفتنة في أزمنة الغربة:

 إن من أشد ما يخشى على أهل الإسلام في أزمنة الغربة أربعة مظاهر من الفتن يمكن إجمالها فيما يلي:

1- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات والتأثر بأهلها الذين هم الأكثرية في عصور الغربة، مما يحصل معه السقوط في فتن الشبهات سواء ما يتعلق منها بالعقائد أو الأعمال أو المخالفات الشرعية الأخرى، وتسويغ ذلك بشبهة شرعية تبرز عادة في غيبة الحق وفشو الجهل.

2- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشهوات التي تطمّ وتنتشر عادة في عصور الغربة وقلة أهل الحق وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناسº فلا يكاد يثبت ويستقيم على أمر الله (عز وجل) مع كل هذه الضغوط إلا القليل الذين يعتصمون بالله، ويقومون بأمره، ويدعون إلى سبيله، أما الكثرة الكاثرة الذين ضعف صبرهم، فتراهم يتنازلون عن دينهم شيئاً فشيئاً أمام مظاهر الغربة الفاتنةº سواء كان ذلك التنازل في العقيدة أو السلوك أو التزام الأحكام.

3- فتنة الـيـأس والقنوط من ظهور الحق وانتصاره أمام تكالب الأعداء وتمكنهم وتسلطهم على أهل الخيـر بالأذى والابتلاء مما قد يؤدي ببعض أهل الغربة إلى اليأس وترك الدعوة حين يرى (إقبال الـدنـيـا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهـيـر، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، وهـو مهمـل مـنـكـر لا يحـس بـه أحـد، ولا يحامــي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً... فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله)(12).

وإن فتنـة اليأس والإحبـاط وترك الدعـوة إلى (عـز وجـل) في عصـور الغربـة لا يقف عند حدº بل قد تؤدي بصاحبها والعياذ بالله ـ إلى الضعف والنقص في دينه شـيـئاً فشيئاً أمام فتن الشبهات والشهواتº ذلك لأن أيامَ الغربةِ أيامُ فتنٍ, وإغراءات وفـشـو منكرات وظهور وتمكين لأهل الباطل والفساد. فإن لم يكن للمسلم فئة صالحة ـ ولو كانت قــلـيـلـة ـ يأوي إليها ويدعو معها إلى الله (عز وجل) حسب الوسع والطاقة فإنه لا بد أن يتأثر بالـفــســاد وأهـلــــــه إلا من رحم الله (عز وجل) ومن غير المقبول عقلاً وشرعاً وحساً أن يبقى المسلم محافظاً على دينه أمام الغربة وهو تارك للدعوة بعيد عن أهلها، فإما أن يؤثّر أو يتأثّر.

نعم! يمكن أن يترك المسلم الدعوة ويبقى محافظاً على دينه في حالة الاعتزال التام عن الناس في شعف من الجبال، ولا إخال هذا متيسراً في هذا الزمان، ثم لو كان ذلك ممكناً: فمن ذا الذي يدعو إلى الله (عز وجل) ويواجه الفساد. وعلى أي حال فالعزلة الشرعية لها أحكامها وضوابطها التي سنعالجها (إن شاء الله تعالى) في حلقة قادمة.

إذن: فلن ينجو من فتنة الغربة في أي زمان أو مكان إلا أحد رجلين:

إما مجاهد في سبيل الله (عز وجل) داع إلى الخير آمر بالمعروف وناهٍ, عن المنكر.

أو رجلٌ معتزلٌ عن الناس في مكان من الأرض يعبد ربه، ولا يخالط الناس.

وما سواهما فهو على شفا هلكة، ولعل هذا ما يفهم من الحـديــــث الذي رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (مِن خَيرِ معاش الناس لهم: رجل ممسك عنان فرسه يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يلتمس الموت، والقتل مكانه. أو رجل في رأس شعفة من الشعاب، أو بطن واد من هذه الأودية: يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين،ليس من الناس إلا في خير)(13).

4- فتنة العجلة وقلة الصبر على الأذى في الغربـةº مما يؤدي ببعض من يقاسي ضغوطها إلى التسرع والاصطدام مع أهل الفساد دون مراعاة للمصالح والمفاسدº فينشأ من جرّاء ذلك فتنة أشد وفساد أكبر على أهل الغربة.

 

الهوامش :

(1) الترمذي 5/18، أحمد 1/398، والبغوي في شرح السنة 1/18 وصححه.

(2) أخرجه أبو عمر الداني في (السنن الواردة في الفتن) (3/ 633) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة 3/ 267.

(3) مسلم شرح النووي 2/76.

(4) أخرجه أحمد (2/ 177، 222) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6650).

(5) مدارج السالكين: 3/194.

(6) كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص28، 29.

(7) كشف الكربة ص32.

(8) انظر مجموع الفتاوى: 18/305.

(9) رواه مسلم في الفتن (2889).

(10) رواه ابن حبان بنحوه (6699 إحسان)، وصححه الألباني في السلسلة 1/7.

(11) أبو داود في الملاحم (4341)، والترمذي في التفسير (3508) وصححه الألباني في السلسلة (494).

(12) في ظلال القرآن 5/2719، 2720 (باختصار).

(13) مسلم في الإمارة: (3/1503، 1504) (1889).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply