القدوة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

يرن جرس الهاتف، يلقي رب المنزل بجريدته جانباً.. يهرع الصغير نحو الهاتف ويرفع السماعة, بينما يرفع أبوه إصبعه إلى شفتيه محذراً و مشيراً إلى السماعة، الابن يحجب السماعة بيده وهو يهز رأسه مستفسراً، الأب يلوح بإصبعه يميناً ويساراً علامة أنه غير موجود قطعياً.

ويحنى الصغير رأسه علامة الفهم ثم يصيح:

بابا غير متواجد.

متى سيأتي؟

لا أعرف.

هل تعرف أين هو؟

لا أعرف.

الأمر ضروري جداً..

هنا يدرك الأب بأن المتصل ربما ليس هو الشخص الغير مرغوب فيه، فيقفز ليقول للصغير وبالإشارة أيضاً: أنة قد وصل.

فيقول الصغير: عمي الباب يطرق، أعتقد أنه أبي.. الأمر يبدو أمراً اعتيادياً جداً لذلك أتقنه الصغير وبمهارة.

الأمر هنا مرادف لأسلوب أحد أطباء علم النفس في جامعه هارفارد وهو البروفيسور \"أريدا فيليبس\"، وقد اشتهر هذا المحاضر بإتقان واستغلال\" السيكودراما\" إلى أقصى حد ممكن في محاضراته التي يحرص على أن تكون عمليه تطبيقيه أكثر من كونها تحليلية، أو سردية، أو تاريخية، وهذا المحاضر هو نفسه الذي أحدث زلزالاً شديداً بأسلوب التحقيقات الجنائية بالولايات المتحدة، وجعلها فوق منحنيات ما بين اليقين والشك، فقد كان يتحدث إلى ستة عشر من طلابه عندما اقتحم باب القاعة رجل، واخرج من جيبه مسدساً، وبدأ يطلق النار صوب الطلابº فارتمى من ارتمى على الأرض، وزحف البعض الآخر على بطنه، و قفزت طالبة تحت الكرسي، وأخرى إلى أحضان زميلها و.. و.. ثم مضت خمس دقائق، ثم دعا البروفيسور \"أريدا فيليبس\" المحاضر طلابه للعودة إلى أماكنهم، وأن يتمالكوا أنفسهمº حيث الأمر جزء من المحاضرة, ثم وزع عليهم ورقة تحتوي على مجموعة أسئلة:

1- كم طلقه أطلقت؟

2- من هو الذي أطلق الرصاص؟

3- من أي جيب أخرج المسدس؟

4- ماذا كان يرتدي صاحب المسدس؟ وما ألوانها؟

5- بماذا تفوه من كلمات؟

6- هل كان له شارب أم حليق الشارب؟

7- هل كان غزير الشعر؟ أم كان بدون شعر؟ ما لون شعره إن كان له شعر؟

8- ما صفاته التقريبية؟ هل كان نحيلاً أم كان بديناً؟

9- هل يوجد بوجهه علامات مميزة؟

وأسئلة أخرى وصلت إلى عشرين سؤالاً، ولكن المهم أن جميع الإجابات تفاوتت واختلفت اختلافاً يثير الدهشة، فالحادثة واحدة ووقعت أمام الستة عشر طالباً وطالبة في لحظة واحدة من الزمن, جميعهم شاهدوها مشاهدة ترتقي لدرجة المعايشة ومع ذلك تناقضت الشهادات، قال البعض: بأن الذي أطلق النار عربياً ملتحياً، وقال البعض: بل زنجياً طويل القامة, وقال آخرون: أنة كان صينياً قصير القامة، بل وقالت طالبة: أنها رأت أكثر من شخص واحد يطلق الرصاص، وهكذا فقد اعتمد المحامون الأمريكيون على هذا المشهد كمرجع كلاسيكي علمي إذا ما أرادوا تفنيد وتزييف شهادة أحد شهود العيان.

المشهد الأمريكي هو نفسه المشهد العربي عندما يقوم الطفل الصغير بالرد على المكالمة، ويقوم بالتمثيل مثل الطالب الأمريكي الذي تطوع بأن يقوم بدور مطلق الرصاص، الدراما هي الدراما، والمحاضر هو الأب الذي درب أبنه علي الرد على المكالمات بمهارة.

مأساة البحث عن القدوة تستمر حيث أن البعض من الأباء والأمهات يعلمون أبنائهم الكذب، ويحرضونهم عليه باستمرار، ثم يغضبون فجأة عندما يكتشفوا أن أحد هؤلاء الصغار قد كذب عليهم ليمارسوا بكل تناقض دور الواعظ عن تحريم الكذب.

مثل هذا الأب ما هو سوى مثل للقدوة السيئة بلا جدال، فأحذر ما تزرع، فما تزرعه ستحصده يوماً ما.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply