بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحَمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإن توفيق الله - عز وجل - لا غِنَى للعبد عنه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِع خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَولَا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّن أَحَدٍ, أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].
فَمَن وَفَّقَهُ الله لتزكية نَفسِه فَقَد أفلح وفاز، قال - تعالى -: {قَد أَفلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى: 14] وأعلى مراتب توفيق الله لعَبدِهِ أن يحبب إليه الإيمان والطاعة، ويُكَرِّهَ إليه الكفر والمعصية، وهي المرتبة التي نالها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وامتن الله بها عليهم في قوله - تعالى -: {وَاعلَمُوا أَنَّ فِيكُم رَسُولَ اللَّهِ لَو يُطِيعُكُم فِي كَثِيرٍ, مِّنَ الأَمرِ لَعَنِتٌّم وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم وَكَرَّهَ إِلَيكُمُ الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].
قال ابن القيم - رحمه الله -: \"يخاطب اللهُ - جل وعلا - عباده المُؤمِنِين، فيقول: لولا توفيقي لَكُم لما أَذعَنَت نُفُوسُكم لِلإيمان، فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولكني حببته إليكم وزينته في قلوبكم، وكرَّهت إليكم ضده الكفر والفسوق\"[1].
والتوفيق من الأمور التي لا تُطلَبُ إلا من الله، إذ لا يقدر عليه إلا هو، فمن طلبه من غيره فهو محروم.
قال - تعالى -: {إِنَّكَ لا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56].
وهذه الهداية المذكورة في الآية هي التي يُسَمِّيها العلماء هداية التوفيق، قال شعيب - عليه السلام -: {وَمَا تَوفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
قال ابنُ القيّم - رحمه الله -: \"أجمع العارفون بالله أنَّ التوفيق هو أن لا يَكِلَكَ الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يُخلِيَ بينك وبين نفسك\"[2].
وبهذا جاء التوجيه النبوي الكريم، فَعَن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعَوَاتُ المَكرُوبِ اللَّهُمَّ رَحمَتَكَ أَرجُو فَلا تَكِلنِي إِلَى نَفسِي طَرفَةَ عَينٍ, وَأَصلِح لِي شَأنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ))[3].
ومما يغلط فيه كثير من الناس ظنهم أنَّ مَن رُزِقَ مالاً، أو منصبًا، أو جاهًا، أو غير ذلك من الأمور الدنيوية، أنه قد وفق، والأمر ليس كما ظنّوا، فإنَّ الدنيا يعطيها الله مَن يُحِبّ وَمَن لا يُحِبّ، وقد ذكر الله هذا عن ذلك الإنسان، وأخبر أن الأمر ليس كما ظن.
قال - تعالى -: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابتَلَاهُ رَبٌّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر: 15-17].
والصواب أن الموفَّقَ هو الذي إذا أُعطِيَ منصبًا، أو جاهًا، استعمله في مرضاة ربِّه، ونصرة دينه، ونفع إخوانه، وإن رزق مالاً أخذه من حلِّه وصرفه في طاعة ربّه، فإن من حكمة الله - تعالى -أن يَبتَلِيَ عِبادَهُ، فالموفق منهم هو الذي إذا أعطي شكر، والمخذول هو الذي إذا أُعطِيَ طَغَى وَكَفَرَ، قال - تعالى -: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى * أَن رَّآهُ استَغنَى} [العلق: 6، 7].
وقال الله عن نبيِّهِ سليمان: {هَذَا مِن فَضلِ رَبِّي لِيَبلُوَنِي أَأَشكُرُ أَم أَكفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيُّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
وتوفيق الله لعباده يكون على أحوال كثيرة، فمنها أن يعرض الخير على أناس فيردونه حتى ييسر الله له من أراد به الخير من عباده، وقد مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من عشر سنين يعرض نفسه على القبائل لينصروه، فلم يستجيبوا له حتى وفَّق الله الأنصار لذلك، فنالوا الشرف العظيم في الدنيا والآخرة.
ومنها أن يوفق الله العبد في آخر حياته لعمل صالح يموت عليه فيختم الله به أعماله.
فعن أنس - رضي الله عنه - قال: \"كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه\"، فقال له: ((أَسلِم))، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: \"أَطِع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - \"، فأسلمَ. وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ)) وفي رواية: \"فلما مات\"، قال: ((صَلٌّوا عَلَى صَاحِبِكُم))[4].
ومنها أن يوفق الله العبد لعمل قليلٍ, أجرُه عند الله كثيرٌ، فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: \"أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ مقنع بالحديد\"، فقال: \"يا رسول الله، أقاتل أو أسلم؟ \" قال: ((أَسلِم ثُمَّ قَاتِل)) فأسلم ثم قاتل فقُتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عَمِلَ قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا))[5].
فمن اتقى الله - تعالى - وملأ الإخلاص قلبه، وعلم الله منه صدق نيته، وأكثر من دعائه، فقد أخذ بمجامع الأسباب الموصلة إلى التوفيق، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] \"مدارج السالكين\" (1/447).
[2] \"مدارج السالكين\" (1/445).
[3] سنن أبي داود (4/324) رقم (5090). وصححه الألباني في \"صحيح الجامع الصغير\" برقم (3388).
[4] صحيح البخاري (1/416) رقم (1356)، وأحمد (3/260) والرواية له.
[5] صحيح البخاري (2/308) برقم (2808)، وصحيح مسلم (3/1509) رقم (1900).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد