بسم الله الرحمن الرحيم
حين يرخي الليل سدوله فيطبق على الدنيا الظلام، وحين تسكن الحياة ويؤوب العباد إلى فرشهم ينامون وحين تتسلى العيون بالمنام وتهيم العقول في بحور الأحلام، وتطمئن الجنوب في المضاجع بعد قيام ..حينها..يتسلل المقربون إلى محاريبهم، يصفون أقدامهم ويبسطون أيديهم، ويسألون حاجتهم، ويستغفرون من ذنوبهم وزلتهم ويتوبون من خطئهم وعثرتهم ويهتفون بكل شوق: « أن جئناك فاقبلنا، وآتيناك فلا تردنا، وسألناك فأعطنا، استرحمناك فارحمنا، واسترضيناك فارض عنا.. أنت العزيز ونحن الأذلاء.. أنت القوي ونحن الضعفاء.. أنت الغني ونحن الفقراء.. ولا استغناء يا رب عنك.. فاقبلنا ».
أطيب أوقات المناجاة أن تخلوَ بربك والناس نيام والخليون هجع، قد سكن الكون كله وأرخى الليل سدوله، وغابت نجومه، فتستحضر قلبك وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك فنأنس بحضرته ويطمئن قلبك بذكره وتفرح بفضله ورحمته وتبكي من خشيته وتشعر بمراقبته وتلحّ في الدعاء وتجتهد في الاستغفار وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء ولا يشغله شيء عن شيء.. تسأله دنياك وآخرتك وجهادك ودعوتك وأمانيك ووطنك وعشيرتك ونفسك وإخوانك.. {وَمَا النَّصرُ إِلاَّ مِن عِندِ اللَّهِ} [آل عمران: من الآية 126].
داعية بلا قيام؟
وإن أعجب العجاب أن تجد داعيةً يصول ويجول ويروح ويجيء ويقضي طول يومه في حياته ودعوته، ثم إذا جن الليل أتى سريره كأنه خشبةٌ لا تتحرك ولا تجري فيها الحياة، يا للعجب.. كيف يحيا داعية بدون ركعات قيام الليل؟ كيف تطيب نفس داعية أن تظل طول الليل هامدةً؟ كيف تطيع عين الداعية نفسه أن تقضي عرض الليل نائمة؟ لم نترك قيام الليل بنور القيام؟ مَن غيركم يرج سبات الكون بآي القرآن؟ أظننتم أن غيركم يفعل؟ أتظنون أنه وجب على من سواكم؟ من أين الزاد إذن؟ ومن أين استجلاب اليقين والثقة والصبر؟ أتظنون أنها من أداء الفرائض وحسب.
كلا.. وأيم الله إن الزاد في قيام الليل.. فمن أراد أن يحمل هم الدعوة وأن يصيب الفردوس من الجنة فليحضر في الأسحار، فمن هنا تمر القافلة..
هو لأهل الإرادة
يقول ابن رجب: \"الليل منهل يرده أهل الإدارة كلهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون، قد علم كل أناس مشربهم، فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه، والخائف يتضرع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي يلحٌّ في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين أحسن الله عزاءَه في حرمانه وفوات نصيبه \".
النبي يبشر:
سئل النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: طوال القيام: (إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله - تعالى - لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام).. (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله - عز وجل - ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد).. (أقرب ما يكون الرب - جل جلاله- من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن).
والسلف يتسابقون:
وعند مطالعة سير السلف في القيام يقف المرء مشدوهًا أمام تلك العزائم والهمم فيفتضح ويظهر قلة عمله.. كان عبد الله بن مسعود إذا هدأت العيون قام فيُسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح، وكان علي بن أبي طالب يستوحش الدنيا وزينتها، ويستأنس بالليل وظلمته فإذا جنَّ عليه الليل تململ وبكى وقال وهو يقبض على لحيته: \"يا ربنا يا ربنا ثم يخاطب الدنيا ويقول: إليَّ تشوقت؟ غرِّي غيري قد بنتك ثلاثًا فعمرك قصير، ومجلسك حقير وخطرك يسير.. آه آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق \".
وكان شداد بن أوس إذا دخل فراشه يتلقَّى مثل الحَبِّ في المقلى، وكان يقول: اللهم إن ذكر جهنم منعني النوم ثم يقوم إلى الصلاة، وكان عبد الله بن الزبير يقوم إلى الصلاة بالليل فيقسم الدهر على ثلاث ليال، فليلة هو قائم حتى الصباح، وليلة هو راكع حتى الصباح، وليلة هو ساجد حتى الصباح، وكان لعبد الله بن عمر إناء ماء يقوم من الليل فيتوضأ فيه ثم يصلي ما قدِّر له أن يصلي ثم يصير إلى الفراش فيغفَى إغفاءة الطائر ثم يقوم فيتوضأ ويصلي يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس.. فالحق بركب هؤلاء تنجو، واسلك طرقهم تجد في أخراه جنةً عرضها السموات والأرض.. وأنعم بها.
لا تنس أهلك:
يقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: (رحم الله رجلاً قام من الليل وأيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء).
فإن منَّ الله عليك بالقيام فلا تنس زوجك ونادهم ليقوموا معك لتنالكم الرحمة وتغشاكم السكينة وتنزل عليكم الملائكة، وليضيء بيتكم في السماء شاهدًا أن هاهنا أسرةً تقوم الليل تتعرض لنفحات الله وتخشى النقمة والغضب، فيؤمِّنها الله مما تخاف ويعطِها ما ترجو ويجعل جزاءها الجنة، وكذلك كانت أسرة أبو هريرة - رضي الله عنها - فكان يقوم هو ثلث الليل وتقوم امرأته ثلث الليل ويقوم ابنه ثلث الليل إذا نام هذا قام هذا.
تشبه بنبيك:
عن عاصم بن حميد قال:سألت عائشة: ماذا كان النبي يفتتح به قيام الليل قالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك: كان يكبر عشرًا ويحمد عشرًا ويسبح عشرًا ويقول: اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد