بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الشكر من أجلّ منازل السائرين، والصلاة والسلام على سيد الشاكرين وإمام الحامدين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. أما بعد:
إنّ نعم الله - تعالى - علينا كثيرة، ومنته جسيمة، وفضله كبير، فكم من خير أرساه! وكم من معروف أسداه! وكم من بلية دفعها! وكم من نقمة ردها! \" وَإِن تَعُدٌّوا نِعمَتَ اللّهِ لاَ تُحصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ \"[إبراهيم: 34].
فضيلة الشكر والشاكرين:
1 - أخبر - سبحانه - أنه لا يعذب الشاكرين من عباده فقال - سبحانه -: مَّا يَفعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً [النساء: 147].
2 - وقسّم الله الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله قال - تعالى -: إِنَّا هَدَينَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3]. وقال - سبحانه -: إِن تَكفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيُّ عَنكُم وَلَا يَرضَى لِعِبَادِهِ الكُفرَ وَإِن تَشكُرُوا يَرضَهُ لَكُم [الزمر: 7].
3 - وأخبر - سبحانه - أن حفظ النعم واستمرارها وعدم زوالها وزيادتها مقرون بالشكر فقال - عز وجل -: وَإِذ تَأَذَّنَ رَبٌّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
أين الشاكرون للنعم؟ أين الحافظون للنعم؟ أين أهل الفضل والكرم؟
4- وبيّن الله - سبحانه - أن الشاكرين قليلٌ من عباده، وأن أكثر الناس على خلاف هذه الصفة، قال - سبحانه -: وَقَلِيلٌ مِّن عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13].
5 - وبيّن - سبحانه - أن الشكر هو أفضل الخصال وأعلاها، ولذلك أثنى به على خليله إبراهيم وجعله غاية صفاته، فقال - تعالى -: إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكِينَ (120) شَاكِراً لِّأَنعُمِهِ..[النحل: 121، 120].
حقيقة الشكر:
الشكر من أعلى المنازل وأرقى المقامات، وهو نصف الإيمان، فالإيمان نصفانº نصف شكر ونصف صبر.والشكر مبني على خمس قواعد:
الأولى: خضوع الشاكر للمشكور.
الثانية: حبّه له.
الثالثة: اعترافه بنعمته.
الرابعة: ثناؤه عليه بها.
الخامسة: ألا يستعمل النعمة فيما يكره المنعم.
فالشكر إذن هو: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وإضافة النعم إلى موليها، والثناء على المنعم بذكر إنعامه، وعكوف القلب على محبته، والجوارح على طاعته، وجريان اللسان بذكره.
ثناء نبوي:
كان النبي إذا أصبح وإذا أمسى يقول: {اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر}، وأخبر أن من قالها حين يصبح فقد أدّى شكر يومه، ومن قالها حين يمسي فقد أدّى شكر ليلته. [أبو داود وحسنه ابن حجر والنووي].
أقسام الشكر:
قال الإمام ابن رجب: (والشكر بالقلب واللسان والجوارح).
فالشكر بالقلب: الاعتراف بالنعم للمنعم، وأنها منه وبفضله. ومن الشكر بالقلب: محبة الله على نعمه. قال بعضهم: إذا كانت القلوب جبلت على محبة من أحسن إليها، فواعجباً لمن لا يدري محسناً إلا الله كيف لا يميل بكليته إليه؟!
والشكر باللسان: الثناء بالنعم وذكرها وتعدادها وإظهارها، قال الله - تعالى -: وَأَمَّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث [الضحى: 11].
والشكر بالجوارح: ألا يُستعان بالنعم إلا على طاعة الله - عز وجل -، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه، قال الله - تعالى -: اعمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكراً [سبأ: 13].
تساؤلات...
هل أنت من الشاكرين حقاً؟ هل أنت من المحبين لله صدقاً؟
هل أنت من الخاضعين لله شكراً؟ هل أنت من المعترفين لله بالفضل والنعمة؟ هل أنت من المثنين على الله - عز وجل - بها؟
هل ظهر أثر الشكر على قلبك؟ هل ظهر أثر الشكر على جوارحك؟ هل ظهر أثر الشكر على أخلاقك وتعاملاتك؟
لنكن أكثر صراحة فنقول:
هل من الشكر على نعمة الإسلام أن يتشبه المسلم والمسلمة بغير المسلمين من المغضوب عليهم والضالين؟ هل من الشكر على النعم ما تفعله كثيراً من النساء اليوم من التبرج وإتباع الموضات، ولبس الملابس الفاتنة التي خرجن بها عن حدود الشرع والحياء والحشمة والعفاف؟
هل من الشكر تضييع كثير من المسلمين للصلوات وتركهم الجمع والجماعات واتباعهم للبدع والضلالات؟ هل من الشكر تهاون الكثير بصيام شهر رمضان وتضييع نهاره في النوم، وليله في السهر أمام شاشات التلفاز، ولعب البلوت والنرد؟
هل من الشكر تأخير كثير من المسلمين لحج الفريضة مع تمام قدرتهم واستطاعتهم؟ هل من الشكر منع الزكاة وقبض الأيدي عن الصدقات وترك الإنفاق في وجوه البر والخير؟
هل من الشكر محاربة الله - عز وجل - عن طريق التعامل بالربا والعمل في مؤسساته؟ هل من الشكر إهدار الأموال الطائلة في جلب الدخان والمخدرات والمسكرات وغيرها من السموم القاتلة؟
هل من شكر النعم ما يفعله كثير من شبابنا من إتلاف لسياراتهم بالتفحيط والتطعيس والسرعة الجنونية؟ هل من الشكر استخدام نعمة الهاتف في المعاكسات وتضييع الأوقات، وفيما يغضب الله - عز وجل -؟
هل من الشكر ما يفعله كثير من الأغنياء اليوم من إهانة للنعمة، وإلقاء الأطعمة في الصناديق مع القاذروات؟
رؤوس النعم:
ذكرنا أن نعم الله - تعالى - لا تعد ولا تحصى، ولكن يمكن أن نذكر رؤوس تلك النعم:
1 - نعمة الإسلام والإيمان: وهي والله أعظم نعمة أنعم الله بها علينا، حيث جعلنا من أهل الإسلام والتوحيد، ولم يجعلنا من اليهود - الذين سبّوا الله - عز وجل - ووصفوه بأقبح الصفات وأخسّها، أو النصارى - الذين عبدوا غير الله، ونسبوا إليه الولد، - تعالى - الله عما يقولون علوّاً كبيراً.
2 - نعمة الستر والإمهال: وهي أيضاً من أعظم النعم، لأن الله - عز وجل - لو عاجلنا بالعقوبة لهلكنا.
3 - نعمة التذكير: قال ابن القيم: (ومن دقيق نعم الله على العبد التي لا يكاد يفطن لها، أنه يغلق عليه بابه، فيرسل الله إليه من يطرق عليه الباب يسأله شيئاً من القوت ليعرّفه نعمته عليه).
4 - نعمة فتح باب التوبة: فمن نعم الله - عز وجل - على عباده أنه لم يغلق باب التوبة دونهم، مهما كانت ذنوبهم ومعاصيهم، وفي أثر إلهي يقول الله - عز وجل -: {أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أُقنطهم من رحمتي، إن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب}. وفي الحديث عن النبي أنه قال: {إن الله - تعالى - فتح للتوبة باباً من قبل المغرب عرضه أربعون سنة لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها} [أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح].
أين التائبون العائدون؟ أين الراكعون الساجدون؟ أين الحامدون الشاكرون؟
5 - نعمة الإصطفاء: وهذه النعمة يشعر بها أهل الاستقامة والورع والإقبال على الله - عز وجل - دون غيرهم، فالله - عز وجل - ثبت هؤلاء على دينه في زمن الفتن، وصرفهم إلى طاعته في حين أنه صرف أكثر الناس عنها، وحبّبهم في الإيمان وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وهذه من أعظم النعم التي يستحق عليها - سبحانه - تمام الشكر وغاية الحمد.
6 - نعمة الصحة والعافية وسلامة الجوارح: كان أبو الدرداء يقول: (الصحة: الملك).
7 - نعمة المال: [الطعام والشراب واللباس]: قال بكر المزني: (والله ما أدري أي النعمتين أفضل عليّ وعليكم، أنعمة المسلك؟ أم نعمة المخرج إذا أخرجه منا؟ ) فقال الحسن: (إنها نعمة الطعام).
الوسائل التي تبعث على شكر النعم واستمرارها وزيادتها:
هناك كثير من الوسائل التي تعين على شكر النعم وزيادتها نذكر منها:
(1) ترك المعاصي: قال مخلد بن الحسين: (الشكر ترك المعاصي)، وفي بعض الآثار الإلهية: {ابن آدم! خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد، أتحبب إليك بالنعم، وتتبغض إليّ بالمعاصي}.
(2) الاعتراف له بالنعمة: والثناء بها عليه، وعدم استخدامها في شيء من معاصيه، وقد سبق الحديث عن ذلك.
(3) النظر إلى أهل الفاقة والبلاء: فإن ذلك يوجب احترام النعمة وعدم احتقارها، ولذلك قال النبي: {إذا نظر أحدكم إلى من فُضّل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فَضُل عليه} [متفق عليه]. وفي رواية: {انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم}.
(4) معرفة أن الإنسان بمنزلة العبد المملوك لسيده: وأنه لا يملك شيئاً على الإطلاق، وأن كلّ ما لديه إنما هو محض عطاء من سيده. قال الحسن: (قال موسى: يا رب! كيف يستطيع آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه؟ خلقته بيديك، ونفخت فيه من روحك، وأسكنته جنتك، وأمرت الملائكة فسجدوا له. فقال: يا موسى! علم أن ذلك مني فحمدني عليه، فكان ذلك شكر ما صنعت إليه! ).
ولذلك ثبت في الصحيحين أن النبي قام حتى تقطرت قدماه. فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: {أفلا أكون عبداً شكوراً}. أي أن كل ما فعله الله - تعالى - بي من الاصطفاء والهداية والمغفرة هو محض عطاء منه - سبحانه - يستحق عليه الحمد والشكر، فما أنا إلا عبد له - سبحانه -.
(5) الإنتفاع بالنعم وعدم كنزها: فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال: {كلوا واشربوا وتصدّقوا من غير مبخلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده} [أحمد والنسائي والترمذي وصححه الحاكم].
(6) الصدقة والبذل والعطاء: فإن ذلك من علامات شكر النعم، ولذلك روي أن داود - عليه السلام - كان يقول في دعائه: (سبحان مستخرج الشكر بالعطاء).
(7) ذكر الله - عز وجل -: فالشكر في حقيقته هو ذكر لله - عز وجل -، وورد عن مجاهد في قوله - تعالى -: إِنَّهُ كَانَ عَبداً شَكُوراً [الإسراء: 3]. قال: (لم يأكل شيئاً إلا حمد الله عليه، ولم يشرب شراباً إلا حمد الله عليه، ولم يبطش بشيء قط إلا حمد الله عليه، فأثنى الله عليه أنه كان عبداً شكوراً). وقال النبي: {إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشرية فيحمده عليها} [مسلم].
(8) التواضع وترك الكِبر: فالكبر يضاد الشكر، لأن حقيقة الكبر هو ظن العبد أنه المالك المتصرف، والشكر هو الاعتراف لله - عز وجل - بذلك.
(9) شهود مشهد التقصير في الشكر: وذلك بأن يعرف العبد أنه مهما بالغ في الشكر، فإنه لن يوفى حق نعمة واحدة من نعم الله - تعالى - عليه، بل إن الشكر نفسه نعمة تحتاج إلى شكر،
(10) مجاهدة الشيطان والاستعاذة بالله منه: قال ابن القيّم: (ولما عرف عدو الله إبليس قدر مقام الشكر وأنه من أجل المقامات وأعلاها، جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه فقال: ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَينِ أَيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمَانِهِم وَعَن شَمَآئِلِهِم وَلاَ تَجِدُ أَكثَرَهُم شَاكِرِينَ [الأعراف: 17]).
(11) ترك مخالطة أهل الغفلة: فإن مخالطتهم تنسي الشكر وتقطع العبد عن التفكر في النعم.
(12) الدعاء: بأن يجعلك الله - تعالى - من الشاكرين، وأن يوفقك لطريق الشكر ومنزلته العالية. ولذلك ثبت أن النبي قال لمعاذ - رضي الله عنه -: {والله إني لأحبك، فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} [أحمد وأبو داود والنسائي وهو صحيح].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد