واعبد ربك حتى يأتيك اليقين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعد

فالواجب على الإنسان أن يكون عبدا لله في أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، وفي كل شأن من شؤون حياته، يتحرى صحة العمل وإخلاص العبودية لله - تعالى - (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)

والطاعة بالنسبة للمؤمن كالماء للسمك والهواء للإنسان، فلا تتصور حياة حقيقية في غيبة معاني الإيمان والعمل الصالح (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم).

 

بل هو إذا ما حيل بينه وبين طاعة ربه يحزن ويشفق على نفسه، حتى وإن كان معذورا كحالة السبعة الذين أرجعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك، رجعوا وهم يبكون، فذكر ربنا حالتهم (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون)

 

وكما قالوا: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر أين أقامك، وكان شداد ابن أوس - رضي الله عنه - يقول: \" إذا رأيت الرجل يعمل بطاعة الله فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيت الرجل يعمل بمعصية الله فاعلم أنه لها عنده أخوات، فأن الطاعة تدل على أختها، وإن المعصية تدل على أختها (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى).

 

والمعصية مذلة ومهانة وضنك وشقاء، ولذلك كان البعض يقول: \" رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة فاستحالت ديانة \" وكان الحسن يقول: \" فإنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه \" .

 

ولذلك فالمؤمن الكيس الفطن هو الذي ينتقل من طاعة إلى طاعة، ومن عبادة إلى عبادة، رائده في ذلك قول الله - تعالى -لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) واليقين هو الموت، ومعنى الآية: لا تنفك عن طاعة الله، ولا تفارق هذا حتى تموت، وهذا كما قال العبد الصالح: (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا).

 

والدليل على أن اليقين هو الموت، ما رواه البخاري من حديث أم العلاء الأنصارية وكانت من المبايعات وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" أما عثمان ابن مظعون فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي \"، وكان عمر ابن عبد العزيز - رحمه الله - يقول: \" ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ثم لا يستعدون له \" (يعني كأنهم فيه شاكون).

 

وقد روى جبير ابن نفير عن أبي مسلم الخولاني أنه سمعه يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" ما أوحي إلي أن اجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين \" .

 

والمسلم يعلم أن رب رمضان هو رب سائر العام، واستعداده للقاء الله يدعوه دائما لاغتنام كل لحظة، وصرفها في طاعة الله، حتى وهو يأكل ويشرب وينام ويتكسب ويأتي سائر شئونه فهو لا ينفك عن طاعة ربه، وذلك لأنه يستن فيها بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وينتوي فيها نية الطاعة، وقد وسع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مدلول الصدقة فقال: \" تبسمك في وجه أخيك صدقة \" .

 

وإذا كان المسلم ينتقل من طاعة إلى طاعة في رمضان لتأكد الطاعة فيه فهناك مجال واسع للعبادة بعد رمضان فما نكاد نرى هلال شوال حتى نخرج من اعتكافنا ونستعد لعيد فطرنا، والأعياد من أعظم شعائر الدين فعن أبي أنس - رضي الله عنه - قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: \" ما هذان اليومان؟ \" قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" أبدلكم الله بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر \" رواه أبو داود وهو حديث صحيح.

 

ويتأكد الإكثار من ذكر الله عقب الانتهاء من الفرائض كالصلاة والصيام والحج، فدبر الصلاة هو وقت من أوقات الإجابة، ويشرع للإنسان الاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير وتلاوة آية الكرسي وغيرها من الأذكار التي تشرع عقب الصلاة، ويقول - تعالى -: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا) وهذا في الحج، ويقول - سبحانه -: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) وهذه الآية بشأن الصيام حيث يشرع للمسلمين أن يبدأوا التكبير في عيد الفطر من رؤية الهلال حتى يغدو الناس إلى المصلى ويخرج الإمام،

 

ويستأنف العباد شهر شوال بانقضاء رمضان حيث يكونون قد تزودوا بزاد التقوى، وشعروا بحلاوة الإيمان ودفء اليقين، وتربوا تربية إيمانية يستصحبونها في سيرهم إلى الله في شوال وفي سائر اشهر العام قال - تعالى -: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهم أنفسكم) فبين - سبحانه - أنه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السماوات والأرض، وأنزل ذلك على أنبياءه في كتبه المنزلة، وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، والمقصود من ذلك إتباع أمر الله فيها ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها وتعلق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم حجة الوداع: \" يا أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض \" وهذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثنتي عشر شهرا، لأنها مختلفة الأعداد منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين، وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص لا يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج.

 

وشهر شوال الذي يعقب رمضان هو من جملة أشهر الحج، ويعقب ذلك ذو القعدة وذو الحجة وكلاهما من أشهر الحج والأشهر الحرم، فهل يليق بنا أن نقلل من طاعاتنا وعبوديتنا في هذه الأشهر يقول - تعالى -: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت للعمرة، وأما الحج فيقع في السنة مرة واحدة فلا يكون الإحرام به في غير هذه الأشهر، قال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.

 

فشمر عن ساعد الجد واحذر التسويف، واحذر طريقة قوم غرهم طول الأمل قال - تعالى -: (فاستبقوا الخيرات) وقال - تعالى -: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)

 

وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: \" في الجنة \" فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل \" متفق عليه

 

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: \" أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان \" متفق عليه.

 

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \" بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ \" رواه الترمذي وقال حديث حسن.

 

ونصيحتي لنفسي ولإخواني أن ننصبغ بصبغة الإسلام في يومنا وليلتنا فنحافظ على تأدية جميع الصلوات في وقتها (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) ويجب على الرجل أن يصلي في جماعة المسجد، كما ينبغي المحافظة على السنن القبلية والبعدية، والإكثار من تلاوة القرآن وذكر الله - تعالى -، وخصوصا الأذكار الموظفة كأذكار الشروق والغروب وأذكار النوم، وعلى العبد أن يتفكر في الموت والقبور والآخرة والوقوف بين يدي من لا تخفى عليه خافية، وتطاير الصحف إلى اليمين وإلى الشمال،

 

واحرص على الإكثار من الدعاء فالدعاء هو العبادة، ولن يهلك مع الدعاء أحد، وإذا ألهم العبد الدعاء فإن الإجابة معه، ولا تعارض بين هذا كله وبين العمل والتكسب والقيام بواجب الدعوة إلى الله - تعالى -، فاللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply