بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن الباريَ - سبحانه وتعالى - بحكمته وعلمه خلق هذا الكون، وأودعه من الموجودات الملائكة والإنسَ والجن، والحيوانَ والنبات والجمادات، وغيرها من الموجودات التي لا يعلمها إلا هو.
كلٌّ ذلك لأجل أمرٍ, واحد لا ثاني له، ولأجل حقيقةٍ, كبرى لا حقيقة وراءَها، إنه لأجل أن تكون العبودية له وحده دون سواه، ولأجل أن تعترف هذه الموجودات بربوبيته وتحقِّق ألوهيتَه، وتُقرَّ بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل شأنه.
ولهذا سأتحدث في هذا المقال، عن معنى العبادة، وما هي أنواع العبادة؟ وما هي شروط صحة العبادة التي تقبل من العبد إذا أتى بها؟
فأقول مستعيناً بالله - سبحانه وتعالى -:
العبادة: هي الخضوع والذل، وسمي الدين عبادة لأن العبد يؤديها بخضوع لله، وذل بين يديه، ولهذا قيل للإسلام: عبادة، والعبد: هو الذليل المنقاد لله، المعظم لحرماته، وكلما كان العبد أكمل معرفة بالله وأكمل إيماناً به، صار أكمل عبادة.
ولهذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام أكمل الناس عبادة لأنهم أكمل الناس معرفةً وعلماً بالله، وتعظيماً له من غيرهم، صلوات الله وسلامه عليهم.
ولهذا وصف الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية في أشرف مقاماته، مثل مقام الإسراء والامتنان والتحدي، فقال - سبحانه -: ((سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ)) ، وقال - تعالى -: ((الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبدِهِ الكِتَابَ)) ، وقال - تعالى -: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبدُ اللَّهِ يَدعُوهُ)) إلى غير ذلك من الآيات.
وعرف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ العبادة بقوله: «هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ».
وبعد أن اتضح لنا معنى العبادة وهي الخضوع والذل لله - سبحانه وتعالى -، لابد لنا من معرفة ما هي أنواع العبادة التي يحبها الله ويرضاه، ومن أنواع العبادة، مثل: الإسلام، والإيمان، والإحسان، والدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة والرهبة والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله - سبحانه وتعالى - بها كلها لله - تعالى -.
وتقوم العبادة على شرطين عظيمين، ويشترط فيها حتى تقبل عند الله - عز وجل - ويؤجر عليها العبد أن يتوفر فيها هذين الشرطين: الأول: الإخلاص لله - سبحانه وتعالى -، والثاني: موافقة العمل للشرع الذي أمر الله - تعالى -أن لا يُعبد إلا به.
الشرط الأول
الإخلاص لله - سبحانه وتعالى - قال - تعالى -: ((وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء))، ومعنى الإخلاص هو: أن يكون مراد العبد بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله - تعالى -، قال - تعالى -: ((وَمَا لأَحَدٍ, عِندَهُ مِن نِّعمَةٍ, تُجزَى * إِلا ابتِغَاء وَجهِ رَبِّهِ الأَعلَى))، وقال - تعالى -: ((إِنَّمَا نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُم جَزَاء وَلا شُكُوراً))، وقال - تعالى -: ((مَن كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الآخِرَةِ نَزِد لَهُ فِي حَرثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرثَ الدٌّنيَا نُؤتِهِ مِنهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ,))، وقال - تعالى -: ((مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدٌّنيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيهِم أَعمَالَهُم فِيهَا وَهُم فِيهَا لا يُبخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ).
وعن عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ, مَا نَوَى فَمَن كَانَت هِجرَتُهُ إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إِلَى دُنيَا يُصِيبُهَا أَو إِلَى امرَأَةٍ, يَنكِحُهَا فَهِجرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ»، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللَّهُ- تبارك وتعالى -: أَنَا أَغنَى الشٌّرَكَاءِ عَن الشِّركِ مَن عَمِلَ عَمَلاً أَشرَكَ فِيهِ مَعِي غَيرِي تَرَكتُهُ وَشِركَهُ».
فتأمل معي أيها القارئ الكريم هذه الآيات والأحاديث التي تحثنا على الإخلاص لله، فالإخلاص مطلب عزيز، لا يصل إليه إلا عباد الله الصالحين.
فأخلص النية لله - تعالى -، وجعل حركاتك وسكناتك في السر والعلانية لله - تعالى -وحده، واحرص على الخير، عبادةً وذكراً، وإحساناً وبراً، قاصداً رب العالمين، متواضعاً له، شاكراً على نعمه الكثيره، خائفاً من التفريط والتقصير، ولا تلتفت لوساس الشيطان لأنه يريد منك أن تنقطع ولا تستمر في طريقك إلى الله بوسوسته لك بأنك غير مخلصٍ, لله.
ومما يعين على الإخلاص عدة أمور، منها:
1- استحضار عظمة الله، وأن النفع كله بيده، فإن حياة الإنسان وصحته وهواءه وماءه وأرضه وسماءه بيد الله، وليس لأحد تصرف في صغير ولا كبير حتى يقصد بالعمل أو بشيء منه، قال الله - تعالى -: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمثَالُكُم)) [الأعراف: 194]. وقال - تعالى -: ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبٌّكُم لَهُ المُلكُ وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطمِيرٍ, إِن تَدعُوهُم لا يَسمَعُوا دُعَاءَكُم وَلَو سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُم وَيَومَ القِيَامَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِكُم وَلا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ,)) [فاطر: 13-14].
2- مجاهدة النفس على الإخلاص، فقد قال - تعالى -: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ)) [العنكبوت: 69].
3- العلم بخطر الرياء، فقد حذر الله منه بقوله: ((وَلَقَد أُوحِيَ إِلَيكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكَ لَئِن أَشرَكتَ لَيَحبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ)) [الزمر: 65].
4- أن تستعين بدعاء الله - سبحانه - بأن يوفقك للإخلاص، وقد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاءً نتخلص به من الرياء، فقد روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فقال: «أيها الناس: اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل»، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه؟ وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله، قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه». وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الله بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، ودعاء لا يسمع» رواه أحمد.
الشرط الثاني
إتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -
والشرط الثاني هو موافقة العمل للشرع الذي أمر الله - تعالى -أن لا يُعبد إلا به وهو متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من الشرائع. فقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
قال ابن رجب - رحمه الله -: هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: «إنما الأعمال بالنيات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يُراد به وجه الله - تعالى -، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء.
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته وهديه ولزومهما قال - عليه الصلاة والسلام -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» وحذَّر من البدع فقال: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ بدعة ضلالة».
والعبادة طريق موصل إلى الله، فلا يمكن أن نسلك طريقاً يوصل إلى الله إلا إذا كان الله وضعه لنا، أما إذا لم يضعه فلن يوصل إلى الله، فلو تعبد شخص لله عبادة فإننا نمنعه حتى يقيم دليلاً على مشروعيته، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، ولهذا نقول: أن الأصل في العبادات الحظر إلا ما قام الدليل على مشروعيتها.
وليعلم أنه لابد أن يقوم الدليل على كون العبادة مشروعة في كل ما يتعلق بها، لابد أن تكون موافقةً للشرع في السبب، والجنس، والقدر، والكيفية، والزمان، والمكان، فهذه ستة شروط:
أولاً: السبب:
فمن شرع عبادة لسبب لم يجعله الشارع سبباً فإنها لا تقبل لأن الشرع لم يأذن بها، مثل: أن يقول كل ما دخلت البيت لا أجلس حتى أصلي ركعتين، فنقول: هذه بدعة لأنه لم يرد في الشرع أن دخول البيت سبب لصلاة ركعتين.
ثانياً: الجنس:
لو ضحى شخص بخيل تساوي قيمة الناقة عشر مرات، فإنه لا يجوز لأن الأضحية من جنس المعين الخاص، الأبل والبقر والغنم، وليس من الخيل، فلا يصح التضحيه بها.
ثالثاً: القدر:
لابد أن تكون العبادة موافقة للشرع في القدر، القدر يعني الكمية، فمن أتى بعبادة زائدة عن القدر الذي شرعه الله ورسوله، فإما أن تبطل إذا كان لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، وإما أن ينهي عن ما زائد ولا تبطل.
مثال على العبادة التي لا يمكن فصلها عن بعضها البعض:
لو صلى الظهر خمساً قلنا لا تصح الصلاة إذا كان متعمداً لأنها خالفة الشرع في القدر، ولو ركع مرتين في صلاة الظهر، قلنا لا تصح، لأنه خالف الشرع في القدر، ولو سجد سجوداً واحداً قلنا لا تصح، لأنها خالفة الشرع في القدر.
مثال على العبادة التي يمكن فصلها عن بعضها البعض:
لو أن رجلاً رمى الجمرات بثماني حصيات، فالسبع حصيات صحيح، والثامنة، باطلة، لأنها زيادة عن القدر المشروع.
رابعاً: الكيفية:
أن تكون مطابقة للشرع في كيفيتها لأن الكيفية تدخل في صلب العبادة، فإن خالف في الكيفية فلا تصح العبادة، ولو أتى بأجزائها، فلو سجد ثم ركع، لم تصح صلاته، ولو بدأ بغسل الرجلين قبل الوجه لم يصح غسل الرجلين، ولو طاف على الكعبة، وجعل الكعبة عن يمينه، فإن طوافه لا يصح لأنه خالف الشرع في كيفية العبادة.
خامساً: الزمان:
فإن أتى بالعبادة في غير زمانها المحدد، فإن كان قبله، لم تصح بالاتفاق، وإن كان بعده بعذر صحت، وإن كان بعده بغير عذر فقيل تصح مع الأثم، وقيل لم تصح وهذا الصواب.
مثال ذلك: رجل صلى الظهر قبل زوال الشمس معتقداً أنها زالت، ثم تبين أنها لم تزل، فنقول: أنها لا تجزء، ولكنها تصح نفلاً، لأنه نوى العبادة على نيتين، نية صلاة، ونية الظهر، فصحت نية الصلاة لأن الصلاة تصح في كل وقت، ولا تصح نية الظهر لأنها قبل دخول وقتها.
وإن صلى الظهر بعد خروج وقتها بعذر إما لنوم، أو نسيان، وما أشبه ذلك، فالصلاة صحيحة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها»، وإن كان بغير عذر، كما لو تعمد أن يصلي بعد الوقت بحيث يكون عنده حصه، أو درس أو عمل لا ينقضي إلا بعد الوقت، وصمم على أنه لن يصلي إلا بعد الوقت فإن صلاته لا تصح على القول الصحيح لو صلى ألف مرة، والقول الثاني: تصح مع الأثم، والقول الصحيح: أنه لا تصح وأنها لا تقبل منه، وأنه يعتبر مخلاً بأحد أركان الإسلام.
سادساً: المكان:
لابد أن تكون موافقة للشرع في مكانها، فلو اعتكف إنسان في بيته في رمضان في العشر الأخيرة، فإنه لا يجزء، لماذا؟ لأن مكان الاعتكاف المساجد، قال - تعالى -: ((وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُم عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ)).
ولو طاف بالبيت خارج المسجد الحرام، لا يجزء لأنه لم يوافق الشرع في المكان لأن من شرط الطواف أن يكون في المسجد الحرام، وحتى لو كان هناك ضيق، فإنه لا يجزئه فلو فُرض أن ما حول المسجد الحرام ساحات، ويمكنه الطواف وطاف منها فإنه لا يجزء لأنه خارج المسجد الحرام، فيكون مخالفاً للشرع في مكان العبادة.
فأهل الإخلاص والمتابعة، أعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله. فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده. لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكوراً، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه.
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد