بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الذي فقدناه في طريق دربنا الطويل، وعاد ماضياً في ذاكرة أحداثنا السالفة، إلى الذي بذل في أيام مضت، وضحى لدينه في عهد قريب.
، السلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد
لقد رأيت منك أخي الفاضل عبودية المخلوقين وهي تترقى في أفضل درجاتها، وعشت معك صحبة محبة وخلة وفاء هي أسعد ما لقيت في حياتي في طريق دربنا الطويل، ولكم رأيتك مقبلاً على بيوت الله، مدبراً عن كل لهو ورذيلة فاخترت الحياة حينها معك صديقاً محباً، وخليلاً عزيزاً، ورفيق درب كهذا إن لم أجد في قلبي حباً يجذبني تجاهه فسرعان ما أضع نفسي في اتهاما على ما تعانيه من إعراض وصدود عن الأخلاء الفضلاء من أمثالك.
أخي الحبيب: طريق الحياة طريق طويل شاق، وتزداد مشقته كثيراً عندما تسمو الأهداف فيه، وتعلو الهمم إلى رضى الرحمن في جنان الخلد وهكذا كنت أنت يا رعاك الله، شاباً اخترت طريق حياتك بملء إرادتك، ومحض اختيارك، فكان حينها الطلب شريفاً والمقصد عظيماً مصداق قول الله - تعالى -: ((إن الذي قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون)) حتى أن سيد - رحمه الله - يعلّق فيقول في ظلاله: ((...الاستقامة أمر ولاشك كبير.وعسير. ومن ثم يستحق عند الله هذا الإنعام الكبير. صحبة الملائكة، وولاءهم، ومودتهم، هذه التي تبدو فيما حكاه الله عنهم.... اهـ)) وإنني على يقين أيها الأخ الفاضل أنك عندما اخترت طريق الهداية كنت تبحث عن المفقود، كنت تبحث عن ذاتك وكيانك، كنت تبحث عن شيء مفقود من حياتك، كنت تبحث عن الراحة، عن الطمأنينة، عن السعادة، عن كل ما يمكن أن يفسّر لك سر هذا الكون الغريب فوجدته في هذا الطريق لا في سواه، وقد تغنى قبلك الشعراء بهذا العز فقال أحدهم:
قل للذي يبغي السعادة *** هل علمت من السعيد
إن السعادة أن تعيش *** لفكرة الحق التليد
لعقيدة كبرى تحل *** قضية الكون العتيد
وتجيب عما يسأل الحيران *** في وعي رشيد
من أين جئت وأين أذهب *** لم خلقت وهل أعود
فتشيع في النفس اليقين *** وتطرد الشك العنيد
هذه العقيدة للسعيد *** هي الأساس هي العمود
من عاش يحملها ويهتف *** باسمها فهو السعيد
وهذا الشاعر ما جادت قريحته بهذه الأبيات إلا عندما ذاق شيئاً من هذه السعادة فترنّم وأنشد مفسراً للتائهين عن الطريق وهتف لهم حادياً على خوض غمار هذه التجربة، وغيره كثير من ذاق طعم السعادة وتلذذ بها في طريق دربه الطويل دعا إليها وناشد من أجلها ومن هؤلاء شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحم الله الجميع، فهذا ابن القيم يقول: ولو لم يكن إلا ما يجازي به المحسن: من انشراح صدره وانفساح قلبه وسروره، ولذته بمعاملة ربه - عز وجل -، وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبته وذكره، وفرحه بربه - سبحانه وتعالى - أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه. وما يجازي به المسيء: من ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته وظلمته، وحزازته، وغمه وهمه وحزنه، وخوفه، وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق: عقوبات عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة. والإقبال على الله - تعالى -، والإنابة إليه، والرضى به، وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل، وجنة، وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة. وسمعت شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّا رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه - تعالى -، والمأسور من أسره هواه. وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله وذكره ومعرفته أو نحو هذا. وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. اهـ - رحمه الله -. وما قاله ابن القيم بعضاً من النعيم الذي يجده الأخيار ومن جرب عرف، وعلى قدر إقبالك على الله وتوجهك إليه تنال من هذه المعاني. والعجب كل العجب ممن أدرك هذه المعاني ثم ما لبث أن عاود الأوهام والضيق والحرج والضنك من جديد.
أخي الحبيب: سوء الخاتمة أجارني الله وإياك منها وهي قاب قوسين أو أدنى ممن يقارف المعصية ويجترئ على الله قال الحافظ عبد الحق الأشبيلي - رحمه الله -: واعلم أن لسوء الخاتمة أسباباً ولها طرق وابواب: أعظمها الانكباب على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والإقدام والجرأة على معاصي الله - عز وجل -، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة، ونوع من المعصية، وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام فملك قلبه، وسبا عقله، وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه، فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاءه الموت على ذلك... ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفاً من الذنوب؟! فأخذ تبنة من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا، وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة. قال واعلم: أن سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله منها: ـ لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سُمع بهذا ولا عُلم به ولله الحمد، وإنما تكون لمن له فساد في الأصل وإصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه، حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية... اهـ، فالمعصية أخي الحبيب مهما كانت فعاقبتها في الدنيا: حرمان العلم، وحرمان الرزق، وحصول الوحشة بينه وبين الناس، وتعسير أموره، ومن أعظم أضرار المعاصي: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم... وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سواداً فيه يراه كل أحد... قال ذلك ابن القيم - رحمه الله -.
أخي الحبيب: لقد صوّر القرآن صورة بذيئة جداً لمن ذاق الهدى وتذوق السعادة فاهتدى ثم ما لبث أن عاد إلى الضلالة قال - تعالى -: ((واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاويين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.. ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)) الأعراف (175ـ 176) فقال سيد - رحمه الله - معلقاً: إنه مشهد من المشاهد العجيبة... إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع... ولكن هاهو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً. ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبّس بلحمه، فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه... هاهو ذا ينسلخ من آيات الله، ويتجرد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى، ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم، فيصبح غرضاً للشيطان لا يفيد منه واق، ولا يحميه من حام، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه.. ثم إذ نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد.. إذ نحن بهذا المخلوق، لاصقاً بالأرض، ملوثاً بالطين، ثم إذ هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد، ويلهث إن لم يطارد... اهـ - رحمه الله -. وصدق الله - تعالى -في نسبة ضلال هذا إلى الخلود إلى الأرض، وحبه الدعة والراحة، فلما ثقُل من الأرض ولم تحم روحه بملكوت السماء أنكب على الأرض بكل ما فيها من متع الحياة وآثرها على ملكوت السماء وما فيها من معاني الرفعة والسمو والروحانية فإن لله وإنا إليه راجعون. وما أخشاه أخي الحبيب بهذه النفس المثقلة الخالدة إلى الأرض المؤثرة للضلالة على الهدى أن تفقد الجنة التي قال فيها ابن القيم - رحمه الله -: إن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن ملاطها فهو المسك الأظفر، وإن سألت عن حصبائها فهي اللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة، ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة واحدة إلا وساقها من ذهب وفضة لا من الحطب والخشب، وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل، وإن سألت عن أنهارها فأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى، وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وإن سألت عن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور، وإن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير، وإن سألت عن سعة أبوابها فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، وإن سألت عن سعتها فأدنى أهلها من يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألفي من الأعوام... وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم فهن الكواعب الأتراب اللاتي جرى في أغصانهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور، وللدقة واللطافة ما دارت عليه الخصور، تجري الشمس في محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء القمر من بين ثناياها إذا ابتسمت..... إلى آخر ما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -. وما أدري يا رعاك الله جنة كهذه من منا يزهد فيها بعد أن عرف طريقها، ومن منا يتنكّب طرقها بعد أن عاش فيها فيا ليت شعري ما ذا بعد هذا الغبن من غبنž، على أنه أخي الحبيب في الجانب الآخر لمن تنكّب طريق هذه الجنة طرق مظلمة، ومصير مجهول، وعواقب سيئة تنتظر المفرّطين في نار أعدها الله - تعالى -للغافلين ورد من صفاتها كما في صحيح مسلم ((أنه يؤتى بها تقاد معها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) وورد من صفاتها أن حجراً ألقي من شفيرها لم يصل لقعرها إلا بعد سبعين عام، نار اشتكت إلى الله فقالت: يا رب أكلي بعضي بعضاً فأذن الله لها بنفسين نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، وكم أنت أخي الحبيب بحاجة إلى وقفة تأمل:
مثّل وقوفك أيها المغرور *** يوم القيامة والسماء تمور
ماذا تقول إذا وقفت بموقف *** فرداً وجاءك منكر ونكير
ماذا تقول إذا وقفت بموقف *** فرداً ذليلاً والحساب عسير
وتعلّقت فيك الخصوم وأنت *** في يوم الحساب مسلسل مجرور
وحشرت عرياناً حزيناً باكياً *** قلقاً وما لك في الأنام مجير
أرضيت أن تحيا وقلبك دارس *** عافي الخراب وجسمك المعمور
مهد لنفسك حجة تنجو بها *** يوم المعاد ويوم تبدو العور
وأخيراً أخي الحبيب: هذه كلمات تجمعت بين يدي لما تأملت سيرتك، وجنوحك عن طريقك الأمثل، زادني حرصاً عليها أيام جميلة خضتها مع شخصك الكريم، تراءت لي عند فقدك فأحببت أن أقذف بها بين يديك ووالله الذي لا إله إلا هو ما كان حرصي عليها إلا لحب تجاهك، ولهف وشوق إلى نجاتك، وما أنا وإياك أخي الحبيب إلا ودائع تسترد عما قريب، وأملي الذي أؤمله بهذه الرسالة أو غيرها أن أكون أنا وإياك في ظلال جنة عرضها السموات والأرض عما قريب بإذن الله - تعالى -. سائلاً الله - تعالى -أن يجمع شملك، ويعلي ذكرك، ويردك إلى الخير فننعم بك صالحاً مصلحاً. وفقك الله وسدد خطاك وأعاننا الله وإياك.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد