وفي الثبات النجاة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تتلقف المغريات الداعية، وتتزين له الشهوات، وتعترض طريقه الفتن، والشيطان من خلفه يوسوس بصوته القبيح أنِ اترك مشاقَّ الطريق إلى سهلِه، ودع العمل إلى الكسل وطلِّق الجد وانكح الراحة..إليك عن هذا الطريق فإن العواقب وخيمة والمنقلب غير آمن.

ولا يفتأ الخبيث عن ذلك في رمضان فيقعد له في كل مرصد يثنيه عن عزمه ويجاهد ليمحوَ ذلك المعنى عن عقله في رمضان، مؤملاً أن يستجيب له وينساق وراءه.

 

صعوبة مجهدة

والثبات في كل معانيه صعب يقول الإمام ابن القيم: \"ليس في الجود شيء أصعب من الثبات والصبر إما عن المحبوب أو على المكروهات وخصوصًا إن امتد الزمان ووقع اليأس من الفرج، وتلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع بها سفرها، والزاد هنا الثبات على حكم الله وقضائه وابتلائه \".

 

لكن أيام رمضان تعلِّم مواجهة الصعب، وتعين الداعيةº علَّها تمده بمدد الثبات الذي يريد، وتعطيه نفحة الثقة واليقين الذي يرجو.. إنه حين يتعلم الثبات على الطاعة في نهار رمضان ويدع المعصية فهو المدد الذي يريد، وحين يتعلم الثبات على أداء النوافل طامعًا في أجرها وجزائها فهو المدد الذي يريد، وحين يتعلم الثبات على نشر دعوته وأداء رسالته وتبليغ دعوته مضحيًا لها لما بين يديه وما خلفها فهو المدد الذي يريد، وحين يتعلم الثبات على حفظ جوارحه وحمايتها من الشرود إلى مواقع المعصية فهو المدد الذي يريد.. حينها يتصبَّر الداعية ويغلب تلك الصعوبة ويثبته الله ويربط على قلبه ويكتب له الإمامة.. {وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

 

طريقنا طويل

وليعلم الدعاة أن طريقهم طويل وشاقّ قد سُفكت عليه الدماء، ودُقَّت فيه الأعناق، وتقطَّعت المفاصل، وزهقت الأرواح، ولعلهم يعلمون ذلك منذ وضعوا أول أقدامهم عليه وبصروا بما هم مقبلون له، واستبانوا الطريق الذي سار عله من سبقهم ولعلهم قرأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم أثرهم.

 

لا بد من ابتلاء

ولا مفر من الابتلاء على الطريق {أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُم وَيَعلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].. {وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ, مِن الخَوفِ وَالجُوعِ} [البقرة: من الآية 155].. (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء).

وهي سنة الله في الجماعة العاملة \"هذا هو الطريق الذي صنعه الله للجماعة المسلمة الأولى وللجماعة المسلمة في كل جيل.. إيمان وجهاد.. ومحنة وابتلاء.. وصبر وثبات وتوجٌّه إلى الله وحده ثم يجيء النصر.. ثم يجيء النعيم والبلاء بالخير والشر.. {وَنَبلُوكُم بِالخَيرِ وَالشَّرِّ فِتنَةً}.. فلا يقتصر على السجون وغيابها أو المطاردة ومخاطرها.. كلا.. ابتلاء الخير أشد ألف مرة.. والثبات على الحق عند حضوره أصعب ألف مرة.

 

القشيري يقسم

علق الإمام القشيري على قول الله - عز وجل -: {وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].. بقوله: \"لم يخلهم من البلاء أو ضده من الضجر وشكرهم في الرخاء أو ضده من الكفر والبطر، وهم في البلاء ضروب، فمنهم من يصبر في حال البلاء ويشكر في حال النعماء، وهذه صفة الصادقين، ومنهم من يضجٌّ ولا يصبر في البلاء ولا يشكر في النعماء فهو من الكاذبين، ومنهم من يؤثر في حال الرخاء ألا يستمع بالعطاء ويستروح إلى البلاء فيستعذب مقاساة الضر والعناء وهذا أجلهم \".

 

والله إنها لأهون

يقول الراشد: \"المؤمن الداعية أهون عليه ألف مرة أن يخلع أضلاعه ضلعًا ضلعًا، وأن يأكل تراب الأرض من أن يتخلى عن دعوته وعقيدته أو يتراجع عن قضية آمن بها أو قبل المساومة على فكرته التي بلغت عنده حد اليقينº لأن في ذلك تنازلاً عن جوهر نفسه كإنسانº ولأن الفكرة التي تتملك بيقينها المؤمن تتحول عنده إلى قيمة الحياة ذاتها \".

 

ثبات عجيب

حكى أبو أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا عدوه، فحضر فصيح في الناس، فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأس فرسه عند عجز فرسه وهو يخاطب نفسه فيقول: أي نفس.. ألم أشهد مشهد كذا وكذا؟ فقلت لي: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد كذا وكذا؟ فقلت لي: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله آخذك أو أتركك، فقلت: لأرمقنه اليوم: فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم: ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا، فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة.

 

الدقائق الغالية

حين يرخي الليل سدوله فيطبق على الدنيا الظلام، وحين تسكن الحياة ويؤوب العباد إلى فرشهم ينامون وحين تتسلى العيون بالمنام وتهيم العقول في بحور الأحلام، وتطمئن الجنوب في المضاجع بعد قيام.. حينها.. يتسلل المقربون إلى محاريبهم، يصفون أقدامهم ويبسطون أيديهم، ويسألون حاجتهم، ويستغفرون من ذنوبهم وزلتهم ويتوبون من خطئهم وعثرتهم ويهتفون بكل شوق: أن جئناك فاقبلنا، وآتيناك فلا تردنا، وسألناك فأعطنا، استرحمناك فارحمنا، واسترضيناك فارض عنا.. أنت العزيز ونحن الأذلاء.. أنت القوي ونحن الضعفاء.. أنت الغني ونحن الفقراء.. ولا استغناء يا رب عنك.. فاقبلنا.

 

وصية البنا

ولعظم الأجر الذي حف دقائق الليل الغالية ضمن الإمام البنا في رسائله رسالة سماها المناجاة يتقرب بها الأخ إلى ربه، ومما حوته هذه الرسالة وصية الإمام الشهيد يقول:

يا أخي لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلوَ بربك والناس نيام والخليون هجع، قد سكن الكون كله وأرخى الليل سدوله، وغابت نجومه، فتستحضر قلبك وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك فنأنس بحضرته ويطمئن قلبك بذكره وتفرح بفضله ورحمته وتبكي من خشيته وتشعر بمراقبته وتلحّ في الدعاء وتجتهد في الاستغفار وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء ولا يشغله شيء عن شيء.. تسأله دنياك وآخرتك وجهادك ودعوتك وأمانيك ووطنك وعشيرتك ونفسك وإخوانك.. {وَمَا النَّصرُ إِلاَّ مِن عِندِ اللَّهِ} [آل عمران: من الآية 126].

 

داعية بلا قيام؟

وإن أعجب العجاب أن تجد داعيةً يصول ويجول ويروح ويجيء ويقضي طول يومه في حياته ودعوته، ثم إذا جن الليل أتى سريره كأنه خشبةٌ لا تتحرك ولا تجري فيها الحياة، يا للعجب.. كيف يحيا داعية بدون ركعات قيام الليل؟ كيف تطيب نفس داعية أن تظل طول الليل هامدةً؟ كيف تطيع عين الداعية نفسه أن تقضي عرض الليل نائمة؟ لم نترك قيام الليل بنور القيام؟ مَن غيركم يرج سبات الكون بآي القرآن؟ أظننتم أن غيركم يفعل؟ أتظنون أنه وجب على من سواكم؟ من أين الزاد إذن؟ ومن أين استجلاب اليقين والثقة والصبر؟ أتظنون أنها من أداء الفرائض وحسب.

كلا.. و ايم الله إن الزاد في قيام الليل.. فمن أراد أن يحمل هم الدعوة وأن يصيب الفردوس من الجنة فليحضر في الأسحار، فمن هنا تمر القافلة.. حضر أحد مشايخنا لقاءً فقال الدعاة له: حدثنا عن صلاة الفجر، فقال: إذا حضرت مجلسًا من مجالس الإخوان فطالبوني أن أحدثكم عن قيام الليل، فالدعاة في حاجة إلى القيام أما عن صلاة الفجر فلا أحدث فلا داعية بسواها.

 

هو لأهل الإرادة

يقول ابن رجب: \"الليل منهل يرده أهل الإدارة كلهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون، قد علم كل أناس مشربهم، فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه، والخائف يتضرع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي يلحٌّ في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين أحسن الله عزاءَه في حرمانه وفوات نصيبه \".

 

النبي يبشر

سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: طوال القيام: (إن في الجنة غرفًا ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله - تعالى -لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام).. (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله - عز وجل - ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد).. (أقرب ما يكون الرب جل جلاله من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن).

 

والسلف يتسابقون

وعند مطالعة سير السلف في القيام يقف المرء مشدوهًا أمام تلك العزائم والهمم فيفتضح ويظهر قلة عمله.. كان عبد الله بن مسعود إذا هدأت العيون قام فيُسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح، وكان علي بن أبي طالب يستوحش الدنيا وزينتها، ويستأنس بالليل وظلمته فإذا جنَّ عليه الليل تململ وبكى وقال وهو يقبض على لحيته: \"يا ربنا يا ربنا ثم يخاطب الدنيا ويقول: إليَّ تشوقت؟ غرِّي غيري قد بنتك ثلاثًا فعمرك قصير، ومجلسك حقير وخطرك يسير.. آه آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق \".

 

وكان شداد ابن أوس إذا دخل فراشه يتلقَّى مثل الحَبِّ في المقلى، وكان يقول: اللهم إن ذكر جهنم منعني النوم ثم يقوم إلى الصلاة، وكان عبد الله بن الزبير يقوم إلى الصلاة بالليل فيقسم الدهر على ثلاث ليال، فليلة هو قائم حتى الصباح، وليلة هو راكع حتى الصباح، وليلة هو ساجد حتى الصباح، وكان لعبد الله بن عمر إناء ماء يقوم من الليل فيتوضأ فيه ثم يصلي ما قدِّر له أن يصلي ثم يصير إلى الفراش فيغفَى إغفاءة الطائر ثم يقوم فيتوضأ ويصلي يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس.. فالحق بركب هؤلاء تنجو، واسلك طرقهم تجد في أخراه جنةً عرضها السموات والأرض.. وأنعم بها.

 

لا تنس أهلك

يقول النبي _ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم _ : (رحم الله رجلاً قام من الليل وأيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فلت وأيقظت زوجها فإن أبي نضحت في وجهه الماء).

فإن منَّ الله عليك بالقيام فلا تنس زوجك ونادهم ليقوموا معك لتنالكم الرحمة وتغشاكم السكينة وتنزل عليكم الملائكة، وليضيء بيتكم في السماء شاهدًا أن هاهنا أسرةً تقوم الليل تتعرض لنفحات الله وتخشى النقمة والغضب، فيؤمِّنها الله مما تخاف ويعطِها ما ترجو ويجعل جزاءها الجنة، وكذلك كانت أسرة أبو هريرة - رضي الله عنها - فكان يقوم هو ثلث الليل وتقوم امرأته ثلث الليل ويقوم ابنه ثلث الليل إذا نام هذا قام هذا.

 

تشبه بنبيك

عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة: ماذا كان النبي يفتتح به قيام الليل قالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك: كان يكبر عشرًا ويحمد عشرًا ويسبح عشرًا ويقول: اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply