بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد..
جاء الملك الكريم جبريل - عليه الصلاة والسلام - إلى رسول الله على صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، وأصحاب رسول الله حولهم فلم يعرف أحد منهم جبريل - عليه السلام -، جاء جبريل - عليه السلام - وقرب من رسول الله حتى أسند ركبتيه على ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وسأل جبريل - عليه السلام - النبي محمداً أسئلة عظيمة ورسول الله يجيبه فسأله عن الإسلام، وسأله عن الإيمان ثم سأله عن الإحسان فقال رسول الله (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
يا له من معنى عظيم كبير، قال أهل العلم وتضمن الإحسان حالتين أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق - سبحانه وتعالى - بقلبه حتى كأنه يراه بعينه وهو قوله كأنك تراه أي وهو يراك والثانية أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل وهو قوله فإنه يراك وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته.
لقد جاءت هذه المعاني في غير ما موضع من كتاب الله، يقول الله جل جلاله (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) يبين - تعالى -في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شيء وأن السر كالعلانية عنده فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر، وقال جل ذكره (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقال - جل وعلا - (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين) وقال الله جل الله (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء)
وللعلامة الشنقيطي - رحمه الله - في كتابه الموسوم بأضواء البيان كلام جميل في هذا السياق، يقول رحمه (أعلم أن الله- تبارك وتعالى -ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظا أكبر ولا زاجرا أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن من أنه - تعالى -عالم بكل ما يعمله خلقه رقيب عليهم ليس بغائب عما يفعلون، وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم مثلاً ليصير به كالمحسوس فقالوا والكلام مازال للعلامة الشنقيطي - رحمه الله - لو فرضنا أن ملكاً قتالاً للرجال
سفاكاً للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً وسيافه قائم على رأسه والنطع مبسوط للقتل والسيف يقطر دما وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يهتم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه وهو ينظر إليه عالم بأنه مطلع عليه لا وكلا بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم خاشعة عيونهم ساكنة جوارحهم خوفاً من بطش ذلك الملك.
ولا شك - ولله المثل الأعلى - أن رب السموات والأرض - جل وعلا - أشد علماً وأعظم مراقبة وأشد بطشا وأعظم نكالاً وعقوبة من ذلك الملك، وحماه في أرضه محارمه، فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه - جل وعلا - ليس بغائب عنه وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي... لان قلبه وخشي الله - تعالى -وأحسن عمله لله - جل وعلا -.
أيها المسلم يا عبد الله الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. نعم.. فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه - سبحانه وتعالى - (يراك) مطلع عليك.. قال الإمام النووي - رحمه الله - عن هذه الجملة العظيمة فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين وهو من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم - وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعاً من التلبس بشيء من النقائص احتراماً لهم واستحياء منهم فكيف بمن لا يزال الله مطلعاً عليه في سره وعلانيته.
وقال - رحمه الله - في موضع آخر (هذا من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم - لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه - سبحانه وتعالى - لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به).
وقال الإمام المناوي في معنى: (كأنك تراه): \"بأن تتأدب في عبادته كأنك تنظر إليه، فجمع بيان المراقبة في كل حال، والإخلاص في سائر الأعمال.
معاشر المسلمين.. حقاً لو اسشعرنا هذا المعنى العظيم الجليل في كل أحوالنا.. في كل سكاناتنا.. في كل حركاتنا.. في معاملاتنا.. في عبادتنا.. في علاقاتنا.. في كلماتنا.. في أقوالنا.. في أفعالنا.. يا عبد الله ما ظنك برجل يعلم أن الله يراه ما هي صلاته.. كيف سيكون خشوعه وخشيته.. كيف ستكون سكينته وطمأنينته.. كيف سيكون تدبره وتفكره، جاء في صحيح الجامع صل صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك.
يا عبد الله.. ما ظنك برجل يعلم أن الله يراه.. ماذا يفعل في خلوته.. عندما تسدل الستر.. وتغلق الأبواب.. هل يقدم على معصية ربه.. هل ينتهك حرمته.. هل يتجاوز يا عبد الله.
يا عبد الله ما ظنك برجل يعلم أن يراه.. هل يغتاب أحداً.. هل يكذب على أحد.. هل يهمز ويلمز.. هل يسب ويشتم..
يا عبد الله ما ظنك برجل يعلم أن الله يراه.. كيف هو في معاملاته هل يرتشي.. هل ينافق.. هل يحقد.. هل يحسد.. هل يغش.. لا.. وألف لا.. فقد صدحت بها أمة الله قبل أربعة عشر قرناً تلك المرأة الصالحة التي رأت أمها تغش اللبن بالماء.. فقالتها.. وأعلنتها يا أماه إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا.
يا عبد الله ما ظنك برجل يعلم أن الله يراه.. ما مدى مراقبته لله.. ما مدى خوفه من الله.. ما مدى استشعاره لعظمة الله.. جاء رجل في ظلمة الليل يريد أن يفعل بفاحشة بامرأة لا حول لها ولا قوة، قال لها وقد نسي أن الله لا يرانا إلا الكوكب فقالت المرأة تذكره وتعظه وهو قريب من الحرام (فأين مكوكبها) نعم.. الله يراك.. فقام الرجل بعد أن تذكر الحقيقة أن الله يراه، ولم يستمر في الذنب، وعاد وتاب.
أيها المسلمون كلنا عرضة للذنب والخطأ، وكل بني خطاء، لكن خير الخطائين التوابون.. اللهم وفقنا لفعل الصالح من القول والعمل، ورزقنا مراقبتك في السر والعلن.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد