بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين..أما بعد:
يتقلب العباد بنعم من الله تترى، ويتنعمون بعطاياه، وتنسيهم سكرة المتعة بالنعمة والفرح بها عن شكر المنعم - جل وعلا -، والثناء عليه، والقيام بطاعته، ومن أعظم هذه النعم التي لا يشعر بفضلها العباد إلا حين يفقدونها نعمة الأمن والأمان، فما أعطي الناس نعمة بعد الإيمان كنعمة الأمن والأمان، فبها تطمئن نفوسهم، وتهدأ خواطرهم، وبها تأمن معيشتهم، وتحت ظلالها يحسون بالرضا والسعادة، وحينما تنقلب هذه النعمة إلى خوف وقلق، فلا تسأل عن حالة الاكتئاب والقلق النفسي، الذي يحل محل الاطمئنان والسعادة، ((وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مٌّطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ, فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ)).
يا لها من نعمة عظيمة من الله حينما يلبس الله الأمة لباس الأمن والأمان، ويا لها من عقوبة إلهية شديدة حينما تلبس الأمة لباس الخوف والألم والقلق وعدم الاستقرار((وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ, مِّنَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ, مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ))، إن الناس ليتحملون قلة الطعام وشحه، ويتعايشون مع قلة الأموال والأرزاق، ولكنهم أبداً لا يطمئنون ولا يتعايشون في أرض يعدم فيها الأمن والاستقرار ففي ظلال الأمن تعمر المساجد، وتقام الصلوات، وينشر الخير، ويسود الرخاء، وتجد الدعوة أرضاً خصبة، تنمو فيها أشجارها، وتظهر فيها ثمارها، وبالمقابل إذا تزعزع الأمن واختل، سادت الفوضى، وانتشر الفساد، وعم الشر، قال حذيفة: (فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سراً) رواه مسلم.
ومع هذه الأهمية العظمى للأمن والأمان، فكيف يمكن تطبيق الأمن ونشره بين العباد، وكيف يمكن أن نحافظ على أمننا، لنعيش في هدوء وسعادة لا يكدرها شيء.
من هم الموعودون بالأمن والأمان من الله؟
من هم الذي يأمنون في الدنيا والآخرة؟
إنهم المؤمنون الصادقون المخلصون لله، الذين لم يشوبوا أعمالهم برياء، ولم يلطخوا توحيدهم بأوساخ الشرك وأدران الكفر، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: ((فَأَيٌّ الفَرِيقَينِ أَحَقٌّ بِالأَمنِ إِن كُنتُم تَعلَمُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ, أُولَـئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مٌّهتَدُونَ)).
نعم هذا كلام واهب الأمن، والمتفضل به، يخبر أن الأمن إنما هو لعباده المؤمنين، القائمين بأوامره، والمجتنبين لنواهيه، الذي حققوا توحيدهم، وآمنوا بالله، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وقاموا بالعبودية لله حق قيام، فوالوا أولياءه، وعادوا أعدائه، وأحبوا في الله، وأبغضوا في الله، الذين كلما زادت الفتن والمدلهمات، زادوا رجوعاً إلى الله، وإقبالاً عليه، أولئك حقاً هم الذين يتمتعون بالأمن، وهم الذين يصدرون الأمن، وهم أهل الأمن.
أفيكون هؤلاء المؤمنون الصادقون هم مصدر القلق والخوف وإبعاد الأمن؟
أفيكون الإيمان بالله وتطبيق شرعه، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبباً في الفوضى وتسلط الأعداء؟
أفيكون تعلم القرآن الكريم ودراسة السنة النبوية وفهم كلام السلف الصالح سبباً في نزع الأمن وشيوع الفوضى؟
أفيكون دعاة التقريب وأهل العلمنة وأفراخ الاستعمار مصدر الأمن، ويكون المؤمنون المتبعون لشرع الله هم مصدر القلق وعدم الاستقرار؟
نعم هكذا يكون عندما تنتكس الفطر، وتنقلب الموازين، حينما تتكلم أفواه وتكتب أقلام النفاق، وهي تطلب الأمان بالثورة على تعاليم الدين، ومسلمات الإسلام، وهي تعتبر أن سبب تسلط الكافرين وقلة الأمن، هم أهل الإيمان والدين. وهذا المنطق ليس بحديث، بل له سلف فاسد، تعالوا بنا لهذه التجربة القرشية في طلب الأمن، وهل من الممكن أن يطلب الأمن بالتنكر لهذا الدين وأهله، لقد عاشت قريش عزيزة آمنة مطمئنة، لا يكدر صفاء عيشها شيء، وكانت القبائل المجاورة تموج بسلسلة من الحروب والسلب والنهب، بينا قريش لا يطالها من ذلك شيء، وانعكس هذا الأمن على قوافلها التي كانت ترحل صيفاً وشتاءً إلى اليمن وإلى الشام، ((أَوَلَم يَرَوا أَنَّا جَعَلنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِن حَولِهِم))، وفي وسط هذه الأجواء، يبعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - في أم القرى، فيدعوا قومه إلى العبودية لله، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان، فماذا كان جواب قريش لهذه الدعوة المحمدية؟ وهي التي عاشت ردحاً من الزمن بالأمن الذي أسبغه الله عليها، لقد كان جواب قريش جواب منتكس الفطرة، ومقلوب المفاهيم، قالوا: ((وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّف مِن أَرضِنَا))، نعم هكذا فهم كفار قريش، أن استجابتهم لدعوة رسول الله، سيفقدون الأمن الذي يتمتعون به، وانتقلت قريش تسوم المؤمنين سوء العذاب، بحجة أن هؤلاء سينزعون أمنها، ويقلبون حالها من السعادة إلى التعاسة والشقاء، تؤذي المؤمنين عند بيت الله، وفي حرم الله، لقد كان بشريعة قريش يأمن السارق والمجرم والقاتل في حرم الله، بل إن أحدهم ليرى قاتل أبيه فلا يستطيع أن يصنع شيئاً لأنه في حرم الله، نعم يأمن هؤلاء جميعاً، ولا يأمن المؤمنون الصادقون من غوائل قريش وإيذاءها.
أترى أن قريشاً حصل لها الأمن فيما تظن؟ كلا وألف كلا.. لقد انقلب أمنها إلى قلق وهزيمة وتشريد وقتل، فلقد قتل صناديدها بأيدي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، فهل نستفيد حقاً من تجربة قريش في طلب الأمن، ونعلم يقيناً أن الأمن إنما هو بإقامة شرع الله في أرض الله، وتحكيم الشريعة في كل شيء، وأن نوالي أولياءه ونعادي أعداءه، وأن وجود المؤمنين المتقين الصالحين ليس هو سبب القلق وانعدام الأمن، بل هو مصدر الأمن والأمان، فلا أمن إلا مع الإيمان، فما بالنا نسمع نعيق الناعقين، وأصوات المنافقين، وترى كتابات المستغربين بين حين وحين، بنفس منطق قريش، ما بالنا نرى ثورة عارمة على تعاليم الإسلام، ومبادئ الدين، وتحميل الدين أخطاء المخطئين، وأفعال المتسرعين، والهجوم بكل صلف وإسفاف على الأسس التي قام عليها هذا البلد، والثورة على الغيرة والحشمة، والتهجم على أجهزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبهام الناس أن سبب القلق وقلة الأمن هو وجود أمثال هؤلاء في بلادنا، ورسم الصور الساخرة لأهل الإيمان والدين، ونرى تهجماً صارخاً على ما قامت عليه هذه الدولة من أول أيامها داعمة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، واعتبار كتب أئمة الدعوة وكتب شيخ الإسلام هي تسبب هذا الفكر أو ذاك، واتهام المناهج التعليمية المتميزة في بلادنا بأنها السبب في كل ما جرى، إلى مثل كثيرة تلقيها الصحافة كل يوم، وتسود بها صحف المسلمين، ويلبسون لهذه النصائح مسرح الفنان، وهم النصحة الغيورون على أمن البلد، والمتصدون لأفكار التطرف والإرهاب، وما علموا أن أفعالهم وتهجماتهم هي التي تولد هذا الفكر، وتثير الدهماء، وتلهب المشاعر، وتثير الجماهير، فهذا الشعب متدين، وميال إلى الدين وأهله، فكيف تتجرأ هذه الأقلام الساقطة الآثمة أن تسطر مثل هذا الهراء.
إننا من هاهنا نناشد المسؤولين وفقهم الله لكل خير، أن يأخذوا على أيدي هؤلاء السفهاء، فهم من أسباب إثارة الناس، ونشوء التطرف، وهم غراق السفينة حقاً الذين يجب الأخذ على أيديهم، وأطرهم على الحق أطراً.
لقد كان حريٌ بنا ونحن نعيش هذه الفتن والرزايا، والأحداث الجسام، أن نعيد النظر في إيماننا الذي هو سبب أمننا، لا أن نثور على الإيمان وأهل الإيمان، وما كنا نعرف فيما مضى هذه الأحداث، وما كنا نسمع بها إلا في دول الغرب، وكنا ننعم بأمن يحسدنا عليه القريب والبعيد، لقد كانت الأمم من حولنا تحوج بها الفتن والقلاقل، ونحن نعيش بمنأى من هذا كله، فما بالنا أصبحنا نصاب بما كان يصاب به غيرنا، إن هذا ليدعونا أن نعيد النظر فيما قصرنا فيه من أوامر الله، وما ثورنا عليه من محارم الله، بدل أن نثور على تعاليم الدين، وأن نغير عليها، وصدق الله إذ يقول: ((وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فِيهِم وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُم وَهُم يَستَغفِرُونَ))، وبالإيمان والتقوى يبقى الأمن والأمان وبنزعهما تأتي الفتن والرزايا: ((وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ, مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ. أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتاً وَهُم نَآئِمُونَ. أَوَ أَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللّهِ فَلاَ يَأمَنُ مَكرَ اللّهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ)) (الأعراف: 96، 97، 98، 99)
نسأل الله - تعالى - أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وأن يسلمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن...
والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد