نحن والحلول الشرعية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

قال -تعالى-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجاً[2]وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ}(الطلاق: 2ـ3).

في سبب نزول هذه الآية أن رجلاً يقال له: عوف بن مالك الأشجعي كان له ابن وإن المشركين أسروه، فكان فيهم، وكان أبوه يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيشكوا إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمره بالصبر والإكثار من: لا حول ولا قوة إلا بالله ويقول له: "إن الله سيجعل لك فرجًا".

فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بإبل من إبل العدو فاستاقها فجاء بها إلى أبيه فنزلت الآية.

تُرى ماذا كان يحتمل في ذهن هذا الأب وهو يتوجه طالبًا الحل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الاحتمالات التي ترد في عقولنا كإجابات لهذا السؤال لا تتجاوز الآتي:

1-              أن يخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقرب مسير جيش إلى العدو فيتفاءل بقرب فلك أسر ابنه.

2-              أن يرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى العدو طالبًا فكاك أسر الابن مقابل فدية تدفع حين يستنقذه من أيدي المشركين.

3-              أن يرفع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يديه بالدعاء بفك أسر ولدهما.

4-              أن يخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن حال ابنه الآن تفصيلاً بكشف الله -تعالى- له فيطمئن عليه.

5-              أن يأمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسفر أو ما شابه ليحاول استنقاذ ولده بنفسه. ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل شيئًا من ذلك، بل إنه حتى -صلى الله عليه وسلم- لم يرفع يديه بالدعاء لفك اسر الابن (على الأقل ليس على مرأى من الأب).

بل وجه الأب إلى أن يكثر هو والأم من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقط.

تريد أن يفك أسر ابنك أكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله".

 

وهنا يستوقفنا سؤال:

ألم يكن بوسع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القيام بواحد من الأمور التي جاء الرجل راجيًا في ذهنه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها؟

بلى كان بوسعه إخباره عن جيش أو سرية تقوم قريبًا لفك أسر مسلم، أن يرسل الفدية لاستنقاذه، وأن يرفع يديه بالدعاء لفك أسره وهو الذي إذا دعا أجابه الله -تعالى-، لكن كلا لم يفعل -صلى الله عليه وسلم-شيئًا من ذلك. لم؟

لقد أتى الرجل طالبًا الحل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن لفت انتباهه إلى الحل الذي يتسم بسمات:

الأولى: الحل عندك.

الثانية: الحل في حسن ظنك ورجائك في الله –تعالى-.

الثالثة: الحل له شق عملي وهو الالتزام بذكر معين 'لا حول ولا قوة إلا بالله'.

الرابعة: الحل يشترط الإكثار من الذكر لا مجرد قوله.

 

 ما علاقة هذا الحل بفك أسر الابن من أيدي الأعداء؟

العلاقة لا شيء، وكل شيء.

لا شيء للباحث عن حل مادي ملموس تراه الأعين

وكل شيء لصاحب اليقين بالله الواثق بعلمه وقدرته والفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض.

أحدهما حدوده الأرض وما تحمل، والآخر مطلق الحدود، فلا راد لأمر الله، ولا معطي لما يمنع، ولا مانع لما يعطي –سبحانه-.

 

ترى كيف كان تفاعل الرجل صاحب المشكلة مع هذا الحل؟

لقد كان بوسعه أن يقترح على النبي -صلى الله عليه وسلم- حلاً من الحلول الدائرة في ذهنه، كان بوسعه أن يطلب منه أن يدعو لولده، لكنه أخذ الحل وانصرف ليس استغناءً عن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن يقينًا وثقة وقناعة بالحل.

ويتضح ذلك جليًا في رد فعله وكيفية تفاعله حيث أوصى زوجه باتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالإكثار من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.

بل والأعجب من ذلك استمرارها على الإكثار من هذا الذكر وهما على يقين أنه الحل لمدة أيام حتى قدم عليهم الابن، وقد ساق إبلاً كثيرة. حرية ومال، وهذا أعظم مما كان يطلب الأبوان الابن سليم معافى بفضل الله -تعالى-، ويرزقه الله نعمًا يسوقها في طريقه إلى المدينة.

والأعجب من العجب كيفية فراره، إذ يحكى كيف انفك قيده الحديد فجأة، وحرسه حوله، وكم حاولوا مرات عديدة من إحكامه عليه ثم يعود لينفك، فأطلقوا سراحه.

هم الذين أسروه وهم الذين أطلقوا سراحه، هكذا يكون الحل الربا ني.

(فَالتَقَطَهُ آلُ فِرعَونَ لِيَكُونَ لَهُم عَدُوّاً وَحَزَناً) رسالة يبعثها الله -تعالى- إلى كل مؤمن به "قل إن الأمر كله لله".

من أسره أطلقه وكله بأمر رب العالمين، كأني بالموقف من أوله إلى آخره امتحان يقين الأب والأم في الله تعالى-.

 

عزيزي الأب..عزيزتي الأم:

في أول سورة في المصحف بعد الفاتحة : {ألم[1]ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتَّقِينَ..}[البقرة: 2] هذه أولى صفاتهم وأعظم صفاتهم، وإنك لتلمح مواقف الاختبار والامتحان التي يتعرض لها العبد في الدنيا فترى مدارها كلها على الإيمان بغيب الله -تعالى-، فعند الأذى تصبر فالعاقبة هناك ونعمة، فاحذر أن تكون فتنة هناك فاشكر، وهكذا إنما يمتحن الله فينا نحن معاشر الآباء والأمهات إيماننا بالغيب في أبنائنا، وتأمل مصيبة فقد الواحد لابنه كيف يدور الحوار الربا ني مع الملائكة : "قبضتم ولد عبدي.. قبضتم ثمرة فؤاده.. فيقولون: نعم يا رب. فيقول: وما فعل عبدي؟" وهو أعلم -سبحانه-: "فيقولون: أي رب حمدك واسترجع [آمن بالغيب فرأى موعود الله تعالى] فيقول الله -تعالى-: "ابنوا لعبدي بيتًا في الجن ة وسموه بيت الحمد".

وسيلقاه يوم القيامة ويكون سببًا في دخول هذا الأب والأم الجن ة، فخلود بلا موت، وكأني بهذا الموقف في الدنيا مشهد امتحان لذلك المقام.

وهكذا يمتحن الله فينا إيماننا بالغيب وثقتنا به -سبحانه- ويقيننا بعد له ورحمته وفضله وكرمه.

-       ومشهد آخر نرقبه من بعيد مشهد الأب المكلوم بفقد ولده الحب يب يوسف -عليه السلام-  واستشعاره لكيد إخوته له، لكنه يزخر قلبه بصرخات اليقين لله وبث الشكوى إليه وحده -سبحانه- (قَالَ إِنَّمَا أَشكُو بَثِّي وَحُزنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ).

يعلم من الله -تعالى- علمه وفضله وكرمه وبره بعباده وإحسانه غليهم ورحمته بهم، ولا يخيب الله ظنه فيكرمه و ويتفضل عليه ويبر به ويحسن إليه ويرحمه (فَلَمَّا أَن جَاءَ البَشِيرُ أَلقَاهُ عَلَى وَجهِهِ فَارتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَم أَقُل لَكُم إِنِّي أَعلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ).

نعم لقد علمت ما لا يعلمون من الله -تعالى- فرزقك الله الصبر والدعاء والثبات والطمأنينة إلى ما تعلم من الله {فَصَبرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُستَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وعبرت الغمة وزالت بفضل الله -تعالى- وحده، ووفقت في الامتحان بعلمك من الله -تعالى- ما لا يعلمه غيرك وثقتك في رحمته وفضله وكرمه.

ومن نظر إلى شرائع الإسلام رأى الله -تعالى- يعامل العباد على قدر يقينهم بالغيب، وتأمل مثلاً الحل لمن أصابته ضائقة مالية ستجده من أعجب ما يكون، فمن ضاقت عليه الدنيا وفقد المال الحل الرباني له هو الصدق ة والإنفاق، قال -تعالى- في الحديث القدسي: 'يا بن آدم أنفق ينفق عليك' وفي رواية 'أنفق أُنفق عليك".

وينادي الملك كل صباح "اللهم أعط منفقًا خلفًا، اللهم أعط ممسكًا تلفًا".

إنه تصحيح التصور، لكن هذا الحل مستحيل وسهل ميسر:

مستحيل لأهل المادة والحلول العلم ية الملموسة بالأيدي المنظورة بالعين .

وسهل ميسر لأهل اليقين بالله -تعالى- الذين يعلمون منه -تعالى- ما لا يعلمه الآخرون. والأمثلة، على ذلك كثيرة متواترة.

 

عزيزي الأب.. عزيزتي الأم:

الحلول سهلة ميسرة موجودة تستلزم من اليقين يقين يعقوب -عليه السلام-، وثبات أم موسى {فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحزَنِي إِنَّا رَادٌّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ} فألقته بيقينها، فحقق الله موعده بفضل ثقتها. فأقبل على الحل الشرعي بيقين وثقة تنل فوق ما ترجو وأعظم مما تأمل. (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجاً وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيءٍ, قَدراً).

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply