بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
إن انتشار المنكرات في المجتمع ظاهرة خطيرة وبلية عظيمة، فهو علامة هلاك، ونذير دمار وفناء.
وكلما ظهرت المنكرات، وكثر أربابها، وشاعت الرذيلة، وأميتت الفضيلة في أي مجتمع كان فإن ذلك سيورِّث -لا محالة - سيلاً جارفاً من العقوبات المتلاحقة من رب العالمين، لا يدفعها ولا يردعها إلا توبة صادقة، ورجعة جادةٌ إلى منبع النجاة وطريق الفلاح (فَلَولا إِذ جَاءهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَت قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ) [سورة الأنعام: 3].
ولا يزال الشيطان جاهداً في إغواء بني آدم وصرفهم عن طاعة ربهم، وإشاعة الفساد بشتى أنواعه بينهمº ليهلك الناس كما هلك، ويكونوا معه يصطلون بنار الجحيم أجارنا الله منها.
ومع تقدم إنسان هذا العصر، وظهور التقنيات الحديثة، وسهولة الاتصال بين بني البشر زاد في المقابل حجم الفساد وتنوعت أساليبه، وتنافس عشاق الرذيلة وأهل الشهوات في إفساد الناس، وعرض الفاحشة بأجمل صورة وأبهى حلَّة، مع تسهيل الوصول إليها!!
والناظر - ولو بشكل سريع - إلى القنوات الفضائية وما تبثه في غالبها من مناظر وأفلام ودعايات ماجنة يلحظ وبجلاء عظم الفساد الذي ضرب بجرانه في هذا العصر فصار الأمر كما قال الله (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ) [سورة الروم: 41]0
لقد عظمت الفتن في هذا الزمان، وأصبحت تطل علينا بوجهها الكالح من كل صوب، وصارت الفتنة تتبعها الأخرى، وترقق الآخرةُ منها الأولى!! بل وأعظم من ذلك وأطمّ أن المعروف صار عند كثير من الناس منكراً، والمنكر معروفاً. وأصبحت مظاهر الفسق والخنا والفجور تسمى بغير اسمها. مصداقاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \" ليشربنَّ ناس من أمتي الخمــر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات \".
إن المجتمع حين تعم فيه المنكرات، ويكثر فيه الفساد فإن المحن تتوالى عليه، ويعظم فيه البلاء، ولن يجني الناس فيه سوى الحصاد المرّ، والسم الزعاف.
ولعلنا هاهنا أن نستعرض بعض الآثار المترتبة على شيوع المنكر في المجتمع، والعواقب الوخيمة التي تنتظر تلك المجتمعات التي انتشرت فيها مظاهر الفسوق والعصيان. فمن ذلك:
1- هلاك الأمم واستئصالها:
والناظر في التاريخ يلمح بجلاء كيف كانت نهاية تلك الأمم التي جاهرت بفسقها وعصت ربها. فكانت العاقبة أن استأصل الله شأفتهم، وصاروا أثراً بعد عين(فَمَا بَكَت عَلَيهِمُ السَّمَاء وَالأَرضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [سورة الدخان: 29].
فهاهم قوم نوح لما عتوا عن أمر ربهم وكذبوا رسوله أغرقهم الله بطوفان هائل لم يبق منهم أحداً إلا من آمن مع نوح (...وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) [سورة هود: 40].وحكى الله لنا سبب عذابهم فقال: (وَقَومَ نُوحٍ, مِّن قَبلُ إِنَّهُم كَانُوا قَومًا فَاسِقِينَ) [سورة الذاريات: 46] فالسبب إذاً هو الفسق!!
وقوم لوط أهل الفجور والشذوذ فسقوا عن أمر ربهم، وجعلوا لأنفسهم نوادي للشذوذ يعاقرون فيها الفاحشة، ويأتون أمثالهم من الذكور كما حكى الله - تعالى -ذلك عنهم فقال: (أَئِنَّكُم لَتَأتُونَ الرِّجَالَ وَتَقطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ... )!![سورة العنكبوت: 29] ومع كثرة نصح نبي الله لوط لهم والإنكار عليهم، ودعوتهم إلى العفة إلا أنهم حاربوه وهددوه وأهله بالطرد والإبعاد من ديارهم!! والحجة: (... أَخرِجُوا آلَ لُوطٍ, مِّن قَريَتِكُم إِنَّهُم أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)!! [سورة النمل: 56]، فالطهر والعفاف صار عند القوم جريمة، والفسوق والفواحش أصبحت فضيلة وأمراً لا يستنكرونه!!
فلما كان حالهم كذلك أنزل الله بهم عقوبة مروِّعة، وعذاباً لم يكن لأحد قبلهمº حيث رُفِعت قراهم إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصوت ديكتهم ثم قلبها الله عليهم (فَجَعَلنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمطَرنَا عَلَيهِم حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ,) [سورة الحجر: 74].
ذكر ابن كثير عن قتادة قال \" بلغنا أن جبريل - عليه السلام - لما أصبح نَشَر جناحه فانتسف به أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميع ما فيها!! فضمها في جناحه فحواها وطواها في جوف جناحه ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب!! وكانوا أربعة آلاف ألف ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسة ودمدم بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ثم أتبعها حجارة من سجيل \"
وهكذا جرت سنة الله مع غيرهم من الأمم التي أعلنت فسقها، وعتت عن أمر ربها كعاد وثمود وأصحاب الرس وفرعون وقومه وقوم سبأ وأصحاب الأيكة (فَكُلًّا أَخَذنَا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَّن أَرسَلنَا عَلَيهِ حَاصِبًا وَمِنهُم مَّن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَّن خَسَفنَا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَّن أَغرَقنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ) [سورة العنكبوت: 40].
أجل إنهم هم الظالمون لأنفسهم، فحين اجترؤوا على محارم الله وعاثوا في الأرض فساداً، وأعلنوا فسقهم ومجونهم كان الجزاء من جنس العمل (... دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيهِم وَلِلكَافِرِينَ أَمثَالُهَا) [سورة محمد: 10].
2- انتشار الفقر واختلال الأمن:
إن مظاهر الفسق إذا تفشت في المجتمع، وألفها الناس واعتادوها كان ذلك نذيراً بتفشي الفقر بينهم واختلال الأمن فيهم عقوبة من الله لهم، ذلك أن أولئك الفساق سخّروا نعم الله التي أنعم بها عليهم في معصيته ومخالفة أمره!!
إن الله- تبارك وتعالى -حين يكرم عباده بالنعم ويطعمهم ويسقيهم فإنما يريد منهم أن يجعلوا تلك النعم عوناً لهم على عبادته وطاعته، لا أن تكون مغرية لنفوسهم بارتكاب الفواحش والآثام!!
فإذا كانت الأمة تسخِّر نعمة الله لتخبط بها في أوحال المعصية ودروب الخطيئة فلا شك أنها قد عرضت نفسها لزوال تلك النعم وحلول النقم بدلاً عنها، قال - تعالى -: (أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعمَةَ اللّهِ كُفرًا وَأَحَلٌّوا قَومَهُم دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصلَونَهَا وَبِئسَ القَرَارُ). [سورة إبراهيم: 28-29].
إذا كنت في نعمة فارعهـا فإن المعاصي تزيل النعم وداوم عليها بشكر الإلـه فإن الإله شديد النقـم والفقر والخوف إذا حلا بأمة فقل - عليها السلام -، ولهذا قرنهما الله - جل وعلا - ببعضهما عقوبة لمن كفر وطغى وبغى، قال - سبحانه -: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مٌّطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ, فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ)[سورة النحل: 112] فتوفر القوت والأمان مطلبان رئيسان في حياة الناسº لهذا نرى أن الله يذكِّر قريشاً بهاتين النعمتين دون سائر النعم لعظمهما وشدة الحاجة إليهما، (لِإِيلَافِ قُرَيشٍ, * إِيلَافِهِم رِحلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيفِ * فَليَعبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيتِ * الَّذِي أَطعَمَهُم مِّن جُوعٍ, وَآمَنَهُم مِّن خَوفٍ,). [سورة قريش: 1-4]
وإذا حفظت الأمة أمر ربها، واتبعت شرع نبيها صبَّ الله عليها الخير صبّاً!! فأنزلت السماء خيراتها وأخرجت الأرض ثمارها وكنوزها، وطاب العيش، وكثر الرزق وبورك فيه.
قال ابن القيم - رحمه الله -: \" وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده في ضمن حديث قال: وجدتُ في بعض خزائن بعض بني أمية حنطةً بقدر نواة التمرة!! وهي في صرّة مكتوب عليها(كان هذا ينبت في زمن العدل)!! قال: وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء أنهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن. وكثير من هذه الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها، وإنما حدثت من قرب \".
ولقد مرّ على تاريخ هذه الأرض أقوام كانوا يعيشون في رغد من العيش، وسعة من الرزق وأمن وأمانº فكان المتصوَّر في حقهم أن يشكروا الله على ما أنعم به عليهم، وما أزجاه من فيض عطاياه وكريم نعمائهº لكنهم كفروا بنعمة الله وما رعوها حق رعايتها!! فماذا كانت النتيجة؟! وكيف كانت العاقبة؟! لقد بُدِّلوا بالغنى فقراً، وبالعزة ذلاً وقهرا، وبالأمن خوفاً ورعباً (... وَمَا رَبٌّكَ بِظَلَّامٍ, لِّلعَبِيدِ) [سورة فصلت: 46]0
هاهي سبأ: أمة مترفة، ذات مال وتجارة، ونعيم ونضارة، وخضرة بهيجة، وأجواء عليلة وأمن وطمأنينة، كما قال - تعالى -عنهم: (لَقَد كَانَ لِسَبَإٍ, فِي مَسكَنِهِم آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ, وَشِمَالٍ, كُلُوا مِن رِّزقِ رَبِّكُم وَاشكُرُوا لَهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُور) [سورة سبأ: 15] وقال: (وَجَعَلنَا بَينَهُم وَبَينَ القُرَى الَّتِي بَارَكنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرنَا فِيهَا السَّيرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) [سورة سبأ: 18].
قال ابن عباس: \" كانت سبأ على ثلاث فراسخ من صنعاء، وكانت أخصب البلاد، تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر فيمتليء المكتل مما يتساقط فيه من الثمر، وأرضها ليس فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حيّة، ومن يمر بها من الغرباء يموت قمله لطيب هوائها!! \".
وقال أبو السعود: \"كان الغادي من قرية يقيل في أخرى، والرائح منها يبيت في أخرى إلى أن يبلغ الشامº كل ذلك كان تكميلاً لما أوفوا من أنواع النعماء وتوفيراً لها في الحضر والسفر... آمنين من كل ما يكرهونه لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات \" 0
فهل شكروا ربهم وعملوا بطاعته؟! كلاº بل لقد فسقوا عن أمر ربهم وعصوا رسله وجحدوا فضله وكريم عطائه، فكان عاقبة أمرهم الخسار والبوار (... وَبَدَّلنَاهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَينِ ذَوَاتَى أُكُلٍ, خَمطٍ, وَأَثلٍ, وَشَيءٍ, مِّن سِدرٍ, قَلِيلٍ, * ذَلِكَ جَزَينَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَل نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ) [سورة سبأ: 16-17]
أجل إنه الفقر المدقع، والمعيشة الضنك، والخوف والتشريد بعد عيش رغيد، وعيشة خصيبة، وأمن وطمأنينة.
وإذا حلّ الفقر بأمة فلا تسل عن تتابع الكوارث والمحن عليها، فما أهونها على أعدائها!! وما أرخص قيمتها عند الأمم..
وها نحن نرى اليوم كثيراً من شعوب الأرض كيف حلّ بها الفقر فأصبحت تلهث وراء لقمة العيش لسدِّ رمق الجوع الذي يهدِّد كثيراً من البلاد. ونسب الفقر في العالم اليوم تزداد بشكل مخيف ومروِّع!! وأعداد من يعيشون تحت خط الفقر بالملايين!!
أما استتباب الأمن في ربوع تلك الدول فقد أصبح أعزَّ من الكبريت الأحمر كما يقال!!
وللناظر أن يتأمل في حال كل البلاد الموصوفة بالتقدم!! والتي أطلقت زمام الحرية الشوهاء، فيسرت سبل الفاحشة، وفتحت مواخير البغاء، وعمت في أرجائها سحائب الفسق و المجون، فهل نعمت بالأمن (وهل استقر أهلها وأمنوا على أنفسهم وأموالهم)! الجواب معلوم معروف.
فإن نسب الجريمة تزداد في تلك البلاد أكثر من غيرها. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِن أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ} (سورةآل عمران: 117).
------------------------------------------
تفسير النسفي 2/366.
تفسير أبي السعود 4/347.
انظر مقالاً في مجلة البيان عدد (149) محرم 1421هـ 2000م بعنوان (الآثار المدمرة لسياسات الافتقار) بقلم: ياسين بن طه بن سعيد الشرجبي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد