بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يموت، تفرّد بالديمومة والبقاء، وتفرد بالعزة والكبرياء، وطوّق عباده بطوق الفناء، وفرقهم بما كتب عليهم من السعادة والشقاء، نحمده - سبحانه - ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه،
ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وصلى الله على خير خلقه نبينا محمد القائل ((أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت..))
والإنسان مأمور بالاستعداد للقاء الله - تعالى - في كل حين، فإنه لا يدري متى تأتيه رسل ربه لقبض روحه؟
وقد قال - عز وجل -: (وَمَا تَدرِي نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ, تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
وقال - تعالى -: (كُلٌّ نَفسٍ, ذَائِقَةُ المَوتِ)
قال بعض السلف هذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فما أسعد من استعد لهذه الساعة! قال جبريل - عليه السلام - لنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم :- (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به).
اعلمي أختي في الله أن هذه الدنيا مدبرة فانية، ثم المرد إلى الله - تعالى - وإلى جنة أو نار، خلودٌ بلا موت، وإقامة بلا ضعن، قال الله جل ثناؤه: (إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقُّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدٌّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ)
أخيتي، كم رأينا من شخص أطلق نفسه في شهوات هذه الدنيا ووقع أسير اللذة وغفل عن ذكر الموت والحساب فإذا نصحه الصالحون ما كان منه إلا أن اعتذر بشبابه وغرّه طول الأمل، فو الله لقد فاجأه الموت فأصبح اليوم في التراب دفيناً، وصار بما قدّم من السيئات مرتبطاً رهيناً، ذهبت عنه اللذات، وفارقته الغانيات، وبقيت في عنقه التبعات، وأقبل على الجبار بأعمال الفسقة الفجار.. أعاذنا الله وإياكم من صحيفة كصحيفته، ومن خاتمة كخاتمته.
فاتقي الله أمة الله.. ولا يكن مثلكِ كمثله.
وأنتِ تعلمين أن هذه الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، واذكري ساعة الموت والانتقال، وما يتمثل لديك ساعتها من كثرة السيئات وقلة الحسنات..
ولو أنا إذا متنا تُركنا...... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بُعثنا...... ونُسأل بعدها عن كل شيء
أخواتي في الله:
اعلمن أننا في رحلة، واعلمن أن لكل بداية نهاية، ولكل أول آخر، وأن كل منا، صغيراً كان أو كبيراً، لا بد وأن يأتي يوم يقال فيه: أحسن الله عزاءك في فلان.. فالموت حالٌ لا محالة..
قال - تعالى -: (وَجَاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنهُ تَحِيدُ)
الموت.. فالقبر.. فالحساب.. فالجزاء.. إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر..
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها....... إلا التي كان قبل الموت يبنيها
تجني الثمار غداً في دار مكرمة....... لا منّ فيها ولا التكدير يأتيها
فيـها نعيمٌ مقـيمٌ دائمـاً أبـداً...... بلا انقطاع ولا منٍ, يدانيها
الأذن والعين لم تسمع ولم تـره...... ولم يدر في قلوب الخلق ما فيها
يقول أحد الشعراء الحكماء المسلمين:
يقول: في ليلةٍ, ذهبت من بيت أهلي إلى بيت جيراني لأنام ليلة، فما أتاني النوم لأنه تغيّر عليّ المنام والمبيت.
فارقت موضع مرقدي *** يوماً ففارقني السكون
القبر أول ليلةٍ, *** بالله قل لي ما يكون؟
كيف شعورك فيه؟
كيف يكون حالك؟
ماذا تقول؟ كيف أؤنسك؟
أين ابنتك؟ أين أبوك؟ أين أهلك؟ أين دارك؟
إذا كان هـذا القبر أول حفـرةٍ,..... ليوم المعاد والمحبين أكثرُ
فماذا تقول اليوم من بعد حسرةٍ,..... تلاقي بها المعبود والله أكبرُ
أول ليلة في القبر... كلها أول جلسة... أول ليلة تسمى ليلة الصفر... ساعة الموت... يوم تُطرح بأكفانك في تلك الحفرة التي طُرح فيها أبوك وجدك.
الملوك طُرحوا فيها وتركوا الجنود.. تركوا الحرس.. تركوا القصور.. ثم نزلوا بهذه الحفرة.
ثبت في الحديث الصحيح عن عثمان - رضي الله عنه - أنه كان إذا وقف على القبر بكى، وكان إذا ذُكرت له الجنة والنار لم يبكِ كبكائه للقبر.
فقالوا له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي؟!
قال: أخبرني خليلي- صلى الله عليه وسلم - أن القبر أول منزل من منازل الآخرة.
إنها كلمات صادقة من نبي كريم!
القبر أول منزل من منازل الآخرة!
تفكري أختي في تلك الليلة الأولى.. إذا ضُجِعت في تلك اللحود وحيدة فريدة بالأعمال والأقوال.
تذكري أختي في الله تلك الليلة.. أول ليلة تمرّ عليك في القبر.
تذكريها فإن لها في قلوب المؤمنين وقعاً، إن لها في قلوب الصالحين أثراً يدفع إلى الطاعات، ويجعل العبد في جدٍ, واجتهادٍ, من المرضات، تذكري أول ليلة في القبر، وحفزي النفس للقاء الواحد الأحد وتجمّلي بالعمل الصالح علّكِ تصيبي من رحمة الله ما يكون لك سبباً في النجاة من ذلك الهول..
مرّ علي - رضي الله عنه - بالمقابر فقال:
السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، وإنا بكم عما قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنا وعنهم، طوبى لمن ذكر الموت والمعاد وعمل للحساب.
ثم قال: يا أهل القبور، أما الأزواج فقد نُكحت، وأما الديار فقد سُكنت، وأما الأموال فقد ُقسّمت، هذا خبر من عندنا، فما خبر من عندكم؟
مالي أراكم لا تجيبون؟
ثم التفت إلى أصحابه - رضي الله عنه - فقال:
أما إنهم لو تكلموا لقالوا وجدنا أن خير الزاد التقوى.. فبكى- رضي الله عنه- وأبكى أصحابه.
أخيتي، لا تغترّي بصموت أهل المقابر، فكم من نفس فيها تحاسب! وكم من نفس فيها تفتن! وكم من نفس فيها تعذب! وكم من قبر فيها يضيق فتختلف ضلوع صاحبه.
لو تكلم القبر لقال:
أنا بيت الظلمة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الغربة، أنا بيت الدود والهوان، نزعتُ الكفين من الكوعين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، لو رأيتم الميت بعد ثلاث ليالٍ, في بطني لاستوحشتم منه، سالت مقلتيه على خديه، وتقلصت شفتاه عن أسنانه، وخرج الصديد والدم من الأنف والفم، انتفخ بطنه وعلا صدره، فرحماك ربي! رحماك ربي!
زيادة المرء في دنياه خسران............. وربحه غير محض الخير خسرانُ
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً................. بالله هل لخراب الدار عمرانُ؟
زيّنا الفلل، ركبنا المراكب البهية الرضية، عندنا مناصب ووظائف.. لكن ماذا فعلنا في القبور؟
أتعرف قبر الملك من المملوك؟ أتعرف قبر الغني من الفقير؟
أتيت القبور فناديتها.............. أين المعظم والمحتقر؟
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ.............. وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناسٍ, مضوا.......... أمالك فيما مضى مُعتبَر؟
مالنا لا نفكر؟ مالنا لا نتدبر؟ مالنا لا نعدّ إعداداً جيداً للقاء الواحد الأحد؟
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى)
قال أبو نعيم في الحلية:
كان مطرف بن عبد الله أحد الصالحين يزور المقابر فيبكي ويدعو لهم، وفي ليلة من الليالي ما زارهم.. كانت الليلة باردة ممطرة فترك زيارتهم، فرأى في المنام كأن رجلاً من أهل المقابر من المسلمين يقول:
يا مطرف، ما زرتنا الليلة، والله الذي لا إله إلا هو يا مطرف إنا نستأنس بزيارتك، وإن الله ينور قبورنا بزيارتك أسبوعاً كاملاً، يا مطرف تزود من لا إله إلا الله فقد حيل بيننا وبين لا إله إلا الله.. والله لو تعلم يا مطرف نفع لا إله إلا الله لقضيت بها أنفاسك.
قال - تعالى -: (وَحِيلَ بَينَهُم وَبَينَ مَا يَشتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشيَاعِهِم مِن قَبلُ إِنَّهُم كَانُوا فِي شَكٍّ, مُرِيبٍ,)
فانظر يا عبد الله مقامك وتوهّم مكانك، ومن أي أولئك تكون؟
إن أعظم الخسارة خسارة أولئك الذين وصفهم الله - تعالى -بقوله: (قُل إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ)
وأعظم الفوز قوله – تعالى -: (فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدٌّنيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ)
فيا عجباً ممن آثر الحظ الفاني الخسيس، على الحظ الباقي النفيس، وممن باع جنة عرضها السماوات والأرض بسجنٍ, ضيقٍ, في هذه الدنيا الفانية!
ويا عجباً ممن باع سماع خطاب الرحمن.. بسماع المعازف والغناء!
فتذكر يا غافلاً عن الآخرة وتفكر في الموت وما بعده فكفى به قاطعاً للأمنيات، وحارماً للذات، ومفرقاً للجماعات، كيف والقدوم على عقبه لا تدري المهبط بعدها إلى النار أم إلى الجنة؟!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد