بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد...
أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه وأخلصوا له العبادة وحده لا شريك له فإن الله خلق الخلق وبعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله قال الله - تعالى -: \"وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ \"(1) وقال - سبحانه -: \"وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ, إِلَّا نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعبُدُونِ\"(2) وقال: \"وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ\"(3).
أيها المؤمنون إن عبادة الله لا تقوم ولا تستقيم إلا بالإخلاص له فالإخلاص لله هو حقيقة الدين ولب العبادة وشرط قبول العمل بمنزلة الأساس للبنيان وبمنزلة الروح للجسد فلا عبادة ولا عبودية لمن لا إخلاص له قال الله - سبحانه وتعالى - مخبراً عن أعمال الكفار التي لا إخلاص فيها ولا توجيه: \"وَقَدِمنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَلٍ, فَجَعَلنَاهُ هَبَاءً مَنثُوراً\"(4) فهذا الإحباط للعمل والإبطال للسعي نصيب كل من لم يخلص لله - تعالى - في قوله وعمله قال الله - سبحانه وتعالى -: \"مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدٌّنيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيهِم أَعمَالَهُم فِيهَا وَهُم فِيهَا لا يُبخَسُونَ ` أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُم فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ\"(5).
أيها المؤمنون اتقوا الله وأخلصوا أعمالكم لله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((إن أول الناس يوم القيامة يقضى عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال الله - تعالى -: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: فلان جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال الله - تعالى -: كذبت ولكنك قرأت لأن يقال: قاريء تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار))(6). نعوذ بالله من حال أهل النار.
أيها المؤمنون إن من أعظم أسباب غياب الإخلاص في أعمال كثير منا هو طلب الدنيا ومحبة المدح والثناء فإن الإخلاص لا يقر في قلب ملئ بمحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس قال ابن القيم - رحمه الله -: فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا ً فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص.
أيها المؤمنون إن مما يعيننا على ترك الطمع ويسهله علينا يقيننا أن الخير كله بيد الله - تعالى -لا يملكه غيره فمن أراده طلبه منه وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله - تعالى -. فازهد يا عبد الله في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه. وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه.
فجاهدوا يا عباد الله أنفسكم حتى تكونوا من أهل الإخلاص الذين أعمالهم كلها لله وحده لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكوراً.
أيها المؤمنون إن لإخلاص العمل فوائد كثيرة منها أن الأقوال والأعمال لا تقبل مهما حسن أداؤها إذا لم يصاحبها إخلاص لله - تعالى -: فعن أبي أمامة مرفوعاً: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه))(7) وفي حديث أبي هريرة t في وصف من أسعد الناس بشفاعة النبي يوم القيامة قال رسول الله: ((من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه))(8).
ومن فوائد الإخلاص أن العمل القليل مع الإخلاص سبب للفوز برضا الله - تعالى -ومن أمثلة ذلك قوله: ((اتق النار ولو بشق تمرة))(9) فشق التمرة مع الإخلاص يقي النار بمنة الكريم المنان كما أن كثير العمل مع الرياء يولج العبد أسفل النيران كما قال العزيز القهار: \"إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّركِ الأَسفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصِيراً \".
ومن فوائد الإخلاص أن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من التوحيد والإخلاص، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض وفي الحديث: ((إن الرجل لينصرف وما كتبت له إلا عشر صلاته أو تسعها أو ثمنها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها))(10). فاتقوا الله أيها المؤمنون وأخلصوا لله رغبتكم وعملكم فإنه لا يضيع عمل المخلصين.
الخطبة الثانية:
أما بعد...
فاتقوا الله أيها المؤمنون وأخلصوا لله - سبحانه وتعالى - فإن الإخلاص سبب لقوة القلب وثبات اليقين عند توافر الفتن والزيغ فهذا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لما كمل مراتب الإخلاص أنزل الله على قلبه السكينة فثبت فؤاده ونصره على أعدائه فالعبد ينصر بإخلاصه لله - تعالى -. فعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم))(11).
فالإخلاص والصدق مع الله يعين العبد على النهوض بالحق والقيام به والدعوة إليه مهما عظمت قوة الباطل فهذا نبي الله هود - عليه الصلاة والسلام - تحدى قومه كما قص الله علينا نبأهم في كتابه حيث قال: \"قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئتَنَا بِبَيِّنَةٍ, وَمَا نَحنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَولِكَ وَمَا نَحنُ لَكَ بِمُؤمِنِينَ ` إِن نَقُولُ إِلَّا اعتَرَاكَ بَعضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ, قَالَ إِنِّي أُشهِدُ اللَّهَ وَاشهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشرِكُونَ \"(12) فالإخلاص أعظم ما يعين العبد على القيام بالحق.
أيها المؤمنون إن الله - سبحانه وتعالى - يقول: \"إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِين\"(13) وقد بين الله - سبحانه - هؤلاء العباد في قوله: \"إِلَّا عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ\"(14) فالمخلصون الموحدون محفوظون بحفظ الله \"كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السٌّوءَ وَالفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ\"(15). فاجتهدوا أيها المؤمنون في إخلاص العمل لله عسى أن تحصلوا تلك الفضائل والمناقب. للهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل.
----------------------------------------
(1) الذاريات: 56.
(2) الأنبياء: 25.
(3) البينة: 5.
(4) الفرقان: 23.
(5) هود: 15-16.
(6) أخرجه مسلم في الإمارة برقم 1905.
(7) أخرجه النسائي في الجهاد برقم 3140.
(8) أخرجه البخاري في العلم برقم 99.
(9) أخرجه البخاري في الزكاة من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - برقم 1417.
(10) أخرجه أبو داود في الصلاة من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - برقم 796.
(11) أخرجه النسائي في الجهاد برقم 3178.
(12) هود: 53-54.
(13) الحجر: 42.
(14) الحجر: 40.
(15) يوسف:24.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد