التمني


بسم الله الرحمن الرحيم

 

والتمني والأمل قرينان، إلا أن الأمل صاحبه يقدم بين يديه سببا، بخلاف التمني فصاحبه يريد شيئا بلا سبب، والتمني ينقسم إلى محمود ومذموم. فما كان من أمر الآخرة فهو محمودº لأن العبد لن يبلغ الجنة بعمله. فهو يتمنى فوق عمله بعد استيفاء الأسباب التي أمر الله بها، فطمع في رحمة اللهº فتمنى مالا يبلغه عمله، وما كان من أمر الدنيا! فإن كان عونا على الآخرة فهو محمود، وإن كان من أمر الدنيا محض فهو سفه، ونقص في العقول فإن الدنيا والآخرة ضرتان إن انشغل بواحدة أضر بأختها، ثم لن يأتيه مما تمنى إلا ما قُدِّر له، قال - تعالى -: {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدٌّنيَا كَمَاءٍ, أَنزَلنَاهُ مِن السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضِ مِمَّا يَأكُلُ النَّاسُ وَالأَنعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَت الأَرضُ زُخرُفَهَا وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمرُنَا لَيلاً أَو نَهَاراً فَجَعَلنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَم تَغنَ بِالأَمسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ, يَتَفَكَّرُونَ (24)} (1)

 

تأمل قوله - تعالى -: (حَتَّى إِذَا أَخَذَت الأَرضُ زُخرُفَهَا وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا)أي وصلوا إلى قمة الغفلة عن الله، واغتروا بما في أيديهم، ونسوا موجدهم، وفرحوا بما عندهم، وبينما هم كذلك بهتهم أمر الله، كما قال تعالى(أَتَاهَا أَمرُنَا لَيلاً أَو نَهَاراً فَجَعَلنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَم تَغنَ بِالأَمسِ) فأذهبهم الله - عز وجل -، وأذهب ما بأيديهم.

ولكن من يعتبر بآيات الله، ويقف عند الحقائق التي أوقف الله عباده عليها كما قال - تعالى -: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ, يَتَفَكَّرُونَ).

فالتمني المحمود هو رضى الله والجنة مع أخذ الأسباب بما أمر الله به..

قال - تعالى -: {وَمَن أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَشكُوراً (19)}(2)

وقال - سبحانه -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدخِلُهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَن أَصدَقُ مِن اللَّهِ قِيلاً (122)}(3)

ثم قال - سبحانه - بعدها مباشرة:

{لَيسَ بِأَمَانِيِّكُم وَلا أَمَانِيِّ أَهلِ الكِتَابِ مَن يَعمَل سُوءاً يُجزَ بِهِ وَلا يَجِد لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123)}(4)

نري الكثير اغتر بحلم الله عليه، وبلطفه به، وبإسباغ النعم ظاهرة وباطنة مع تقصيره وغفلته، فعاش في الأمنية التي عاش فيها أهل الكتاب.كما قال - تعالى -: {فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدنَى وَيَقُولُونَ سَيُغفَرُ لَنَا وَإِن يَأتِهِم عَرَضٌ مِثلُهُ يَأخُذُوهُ أَلَم يُؤخَذ عَلَيهِم مِيثَاقُ الكِتَابِ أَن لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعقِلُونَ (169)} (5)

قال قتادة: إي والله لخلف سوء بعد أنبيائهم ورسلهم، أورثهم الله وعهد إليهم، تمنوا على الله أماني وغِرّة يغترون بها، لايشغلهم شئ عن شئ، ولا ينهاهم شئ عن ذلك، كلما هفّ لهم شئ من الدنيا أكلوه، لا يبالون حلالا كان أو حراما.(6)

حسدوا من فوقهم في الطاعات، وبغوا عليهمº وتعالوا على من دونهم في المعاصي، وقتروا عنهم، ويقولون سيغفر لنا!

ومن الخير تمني فعل الخيرات مع أخذ أسبابها، فإن عجز عن إيجاد السبب يؤجر على نيتهº وكذلك تمني الشر مع العجز عن إتيانه يأثم صاحبه.

عَن أَبِي كَبشَةَ الأَنمَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِنَّمَا الدٌّنيَا لِأَربَعَةِ نَفَرٍ,º عَبدٍ, رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّاº فَهَذَا بِأَفضَلِ المَنَازِلِ. وَعَبدٍ, رَزَقَهُ اللَّهُ عِلمًا وَلَم يَرزُقهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ,º فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبدٍ, رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَم يَرزُقهُ عِلمًاº فَهُوَ يَخبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيرِ عِلمٍ,، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّاº فَهَذَا بِأَخبَثِ المَنَازِلِ. وَعَبدٍ, لَم يَرزُقهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ,، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزرُهُمَا سَوَاءٌ. (7)

فإذا استغرق العبد في الأماني بدون ضابطٍ, من شرع وعجز عن تحقيق الأمنية، حسد من فوقه، وتعالى على من تحته وربما وقع في البغي.

فأول جريمة قتل وقعت بين بني الإنسان سببها الأمنية التي يصعب تحقيقها. وهي كما ذكر المفسرون: أن الله شرع لآدم أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، وكان يولد في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لأنثى البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل وضيئة، فتمناها وأراد أن يستأثر بها، فمنعه آدم إلا أن يُقَرِّبا قُربانا، فقربا، فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر كما ذكر الله قصتهما.

قال - تعالى -: {وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ ابنَي آدَمَ بِالحَقِّ إِذ قَرَّبَا قُربَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَم يُتَقَبَّل مِن الآخَرِ قَالَ لأَقتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِن المُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ, يَدِي إِلَيكَ لأَقتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثمِي وَإِثمِكَ فَتَكُونَ مِن أَصحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَت لَهُ نَفسُهُ قَتلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصبَحَ مِن الخَاسِرِينَ (30)} (8)

فالأماني تورث عدم الرضى والسخط على أقدار الله - عز وجل - عند من لا إيمان له، بخلاف المؤمن الذي يعلم أن تقدير الأمور من عند الله - سبحانه -، وأن العبد لا ينال من الدنيا إلا ما قُدر له.

عَن صُهَيبٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: عَجَبًا لِأَمرِ المُؤمِنِ إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ وَلَيسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ, إِلَّا لِلمُؤمِنِ، إِن أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ، وَإِن أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ. (9)

ولذلك إذا انشغل الإنسان بالخير، وأخذ أسبابه مع تمني الغاية في بلوغ مراده نال الأجر العظيم وبلَّغه الله فوق ما تمنى، ورضَّاه بما قُسِم له.

 

وقتك هو رصيدك ورأس مالك: -

فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة المعيشة الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر أسرع من مر السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبا من حياته، وإن عاش فيه عاش حياة البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، أو كان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته، وإذا كان العبد وهو في الصلاة- ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله.

فعمرك الذي هو رصيد عملك في هذه الحياة، يأتي الشيطان فيضيعه عليك بالأماني الكاذبة، فإذا بالعبد يؤمل ويتمنى، حتى يهجم عليه الموت فيرى أنه أضاع دينه ودنياه.

ولذلك انظر إلى حال الشيطان مع أولياءه قال تعالى{.. وَإِن يَدعُونَ إِلاَّ شَيطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِن عِبَادِكَ نَصِيباً مَفرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُم وَلأمَنِّيَنَّهُم وَلآمُرَنَّهُم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنعَامِ وَلآمُرَنَّهُم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذ الشَّيطَانَ وَلِيّاً مِن دُونِ اللَّهِ فَقَد خَسِرَ خُسرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُم وَيُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُم الشَّيطَانُ إِلاَّ غُرُوراًً (120)}(10)

انظر إلى قوله تعالى(يَعِدُهُم وَيُمَنِّيهِم) ثم قال - عز وجل -(وَمَا يَعِدُهُم الشَّيطَانُ إِلاَّ غُرُوراً)

كم من أناس أقعدهم الوهم، وألهتهم الأماني، وشغلهم الأملº فضيعوا العمر بدون فائدة. فإذا الأماني والآمال كانت سرابا، وجاء الموت بغتة حين لا ينفع الندم.

وإليك هذا المثال الذي ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتمني، والمؤمل، وهو غافل عن أنياب المنايا..

عَن عَبدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَّ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا مُرَبَّعًاº وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنهُº وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِن جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ. وَقَالَ: هَذَا الإِنسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَو قَد أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعرَاضُº فَإِن أَخطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِن أَخطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا.. (11)

فأما التمني الذي هو من شيم المفلسين، ومن طباع البطالين، مما يرد من الخطرات والفكر، فإما وساوس شيطانية، وإما أماني باطلة، وخدع كاذبة، بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى، والمحشوشين، والموسوسين، فهذا هو الباطل بعينه، فصاحبه لا نال لذةً في الدنيا، ولا نعيم

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply