إدراك آثار العبادة وفضلها


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ليُعلَم أن الأصل في العبادات أنها تؤدّي امتثالاً لأمر الله، وأداءً لحقّه على عباده، وشكراً لنعمَائه التي لا تُنكر، وليس من اللازم أن يكون لهذه العبادات ثمرات ومنافع في حياة الإنسان المادية، وليس من الضروري أن يكون لها حكمة يدركها عقله المحدود. إنها ابتلاء لعبودية الإنسان لربّه، ولا معنى لأن يُدرك السرّ في كل تفصيلاتها. فالعبد عبد، والرب رب، وما أسعد الإنسان إذا عرف قدر نفسه. فالله غنيّ عن عباده كل الغنى، وإذا تعبّدهم بشيء فإنما يتعبّدهم بما يصلح أنفسهم ويعود عليهم بالخير في حياتهم الروحية والمادية، الفردية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية. ومن هذا الخير أن قلب الإنسان متى كان عامراً باليقين، ومغموراً بجلال الله وكبريائه، ومنوّراً بمشاهدة قدرة الله - سبحانه وتعالى - وجلاله، وبشعور العجز والضعف أمامه، تظهر آثار ذلك المباركة في النفس والحياة: يحسها الإنسان في ذاته، ويلمسها في غيره، ويرى ظلالها في الحياة من حوله. والفرق بين الحقيقة والصناعة في ذلك كالفرق بين الأصل والنقل و«ليس التكحّل في العينين كالكحل».

 

ومِن آثار العبادة في نفس العابد أنها تهذبها من الرعونات والحماقات والدعاوى والأنانيات، حتى تصفوَ وتدخل في دائرة العبودية لسلطان مقام الربوبية، ولمّا قال ربيعة بن كعب الأسلمي للرسول - صلى الله عليه وسلم -: أسألك من مرافقتك في الجنة، قال له - صلى الله عليه وسلم -: «فأَعِنّي على نفسك بكثرة السجود».

 

وها هي بعض هذه الآثار:

السكينة والسرور: فالعبودية الخالصة لله هي عين الحرّية، وسبيل السيادة الحقيقية لأنها هي وحدها التي تعتق القلب من رق المخلوقين وتحرّره من الذلّ والخضوع لكل ما سوى الله من الطواغيت التي تستعبد الناس وتسترقّهم. فالعبد السالم لله الواحد قد جلب لنفسه السعادة واستراح إذ عبد ربه بارتياح وانشراح. أما العبد الذي يملكه شركاء متشاكسون يأمره أحدهم بعكس ما يأمره غيره فما أتعسه وما أشقاه!! {وضرب الله مثلاً: رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً؟}.

الزهد في الدنيا وازدراؤها: ذلك أن العبادة تكشف حقيقة الدنيا بوضوح {إن الدار الآخرة لهي الحيوان} {وما عند الله خيرٌ وأبقى} {وما متاع الدنيا في الآخرة إلا قليل}.

السخاء والإيثار: قال - تعالى -: {ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً...} وقال: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.

التواضع وإنكار الذات: وهذا هو المنصب الأعلى في الدين. ولا يبلغ الإنسان هذه المنزلة إلا أن تموت الأنانية، ويتزكى قلبه من جميع الشوائب والعلائق، فلا يرى له حقاً على أحد ولا يطالبه بشيء ولا يعاتب أحداً ولا ينتقم لنفسه في أي حال.

الفراسة والكرامات: فالله - تعالى - يُنعم على كثير من عِباده بهذه النعمة، فتظهر على أيديهم أو ألسنتهم وقائع تؤيد قبولهم ووجاهتهم عند الله والناس، وقد اتفق أهل السنة على أن «كرامات الأولياء حق».

وللعبادة صبغة نورانية ينصبغ بها قلب العابد وعقله وجميع حواسه بالنور الإلهي، حتى ليشرق في وجه العابد إشراقاً. قال - تعالى -: {صِبغة الله، ومَن أحسن من الله صِبغةً! ونحن له عابدون}. والمعنى: الزموا صبغة الله، فإنها صِبغةُ نورٍ, ثابت، ولا أحسن منها صبغة، وذلك بعبادتكم لربكم - سبحانه - كما شرع الله لكم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «والصلاة نور والصبر ضياء».

وبالعبادة صفاء القلب وجلاؤه ونقاؤه وضياؤه، حتى إنه لتتجلى فيه أنوار الحق، قال - تعالى -: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح... } الآية، أي: مثل نوره - سبحانه - في قلب عبده المؤمن كمشكاة، أي كوّة، فيها مصباح يتوقّد بالنور، والمشكاة تسير إلى الصدر، والمصباح هو قلب المؤمن المشرق بنور الإيمان بالله - تعالى -. وقد أُنشِدَ لبعض العارفين في ذلك:

إذا سكَنَ الغديرُ على صفاءٍ, *** وجنّب أن يحركه النسيمُ

 

بَدَت فيه السماءُ بلا امتراءٍ, *** كذاكَ الشمسُ تبدو والنجومُ

 

كذاكَ قلوبُ أربابِ التَّجَلّي *** يُرى في صَفوِها اللهُ العظيمُ

 

وذلك كلٌّه من باب ظهور النور في مرايا القلوب، وليس من باب التجزّؤ أو الحلول، - تعالى -الله عن ذلك علواً كبيراً.

 

وبالعبادة يكون التقرب والاقتراب إلى رب العالمين، قال الله - تعالى -: {واستجد واقترب} وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسيّ: «وما يزال عبدي يتقرّب إلَيَّ بالنوافل حتى أحبه... ».

وبالعبادة يشعر الإنسان برعاية الله وحفظه، فهو معه أينما كان، في جلوته وفي خلوته، يسمع ويرى، ويرعى ويهدي، يعطي من سأله ويجيب من دعاه، فهو - تعالى -قريب في علّوه، عليّ في دنُوِّه، قال - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإنّي قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}. وقد عبّر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم ـ أبي الأنبياء ـ عن هذه الرعاية من الله وذلك الحفظ من العليّ الكبير فقال: {الذين خَلَقَني فهو يهدين، والذي هو يطعمنى ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين}.

ولا ننسى أن أساس القبول لأي عبادة إنما هو إخلاص القلوب لله - تعالى -. فالعبادة ليست شكلاً يتعلق بالمظهر، ولا رسماً يتصل بالجسد ـ كما زعم بعض المبشرين والمستشرقين على الإسلام ـ ولكنها سر يتعلق بالقلب، وإخلاص ينبع من الروح، قال - تعالى -: {قل إني أُمرِت أن أعبد الله مخلصاً له الدين}، وإذا لم يصدق قلب المسلم في عبادته، ولم يخلص لله في طاعته، وأدّاها رسوماً خالية من الروح، فهناك يردها الله عليه:

 

فإذا لم تؤدّ الصلاة مهمتها في إيقاظ الضمير، وغرس خشية الله ومراقبته في النفس، تلك التي تؤدي إلى الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فإنها تكون بتراء ناقصة، وقد جاء في الأثر: «مَن لم تَنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له».

وإذا لم يؤدّ الصيام إلى التقوى التي جعلها القرآن مرجوّة بحصوله {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، وصام بطن الإنسان وفرجه ولم يصم لسانه ولا جوارحه ولا قلبه، فحَرِيّ بصيامه أن يُرَدَّ وأن يكون عمله زائفة، وأن ينطبق عليه ما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».

وكذلك الزكاة أو الصدقة، إذا داخلها رياء، أو لحقها مَنّ أو أذى للفقير، فإن ذلك يفسدها ويحبط ثوابها. وقد قال ابن عطاء: الأعمال صورة قائمة وروحها هو وجود سر الإخلاص فيها. وإننا لنجد هذه المعنى واضحاً في هذه الآيات الكريمة من كتاب الله: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى... يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمَنِّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر... ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين.. }.

ومَن لم يخلص النية لله - تعالى - في حجه ولم يرجع منه بتقوى الله، فقد أفسده وأحبط ثوابه لأن الله لا ينظر إلى الأجسام ولا إلى الصور.. ولكن ينظر إلى القلوب.

وهكذا فإن الجزاء الأكبر ـ في جميع العبادات ـ للإخلاص {فادعوا الله مخلصين له الدين}، ولتقوى القلوب {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، وللقلب السليم {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply