من عقوبات الذنوب والمعاصي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

\"قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في الجواب الكافي: من عقوباتها (الذنوب والمعاصي) أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه، وجيش يقويه به على حربه، وذلك أن الله - سبحانه - ابتلى هذا الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين، ولا ينام عنه. ولا يغفل عنه، يراه هو وقبيله من حيث لا يراه يبذل جهده في معاداته في كل حال، ولا يدع أمراً يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله إليه، ويستعين عليه ببني جنسه من شياطين الجن، وغيرهم من شياطين الإنس: فقد نصب له الحبائل، وبغى له الغوائل، ومدحوله الأشراك، ونصب له الفخاخ والشباك، وقال لأعوانه: دونكم عدوكم وعدو أبيكم لا يفوتكم، ولا يكون حظه الجنة وحظكم النار،

 

ونصيبه الرحمة ونصيبكم اللعنة، وقد علمتم أن ما جرى علي وعليك من الخزي واللعن والإبعاد من رحمة الله بسببه ومن أجله، فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا في هذه البلية، إذ فاتتنا شركة صالحيهم في الجنة، وقد أعلمنا الله - سبحانه - بذلك كله من عدونا، وأمرنا أن نأخذ له أهبته، ونعد له عدته.

ولما علم - سبحانه - أن آدم وبنيه قد بُلوا بهذا العدو وأنه قد سُلط عليهم أمدهم بعساكر وجند يلقونه بها، وأمد عدوهم أيضاً بجند وعساكر يلقاهم بها، وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر، التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنَفس واحد من أنفاسها، واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فَيقتلون ويُقتلون، وأخبر أن ذلك وعد مؤكد عليه في أشرف كتبه، وهي التوراة والإنجيل والقرآن، وأخبر أنه لا أوفى بعهده منه - سبحانه -، ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر إلى المشترى من هو؟ وإلى الثمن المبذول في هذه السلعة، وإلى من جرى على يديه هذا العقد، فأي فوز أعظم من هذا؟ وأي تجارة أربح منه؟.

ثم أكد - سبحانه - هذا الأمر بقوله: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها، نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين} [الصف: 10]. ولم يسلط هذا العدو على عبده المؤمن الذي هو أحب أنواع المخلوقات إليه، إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه، وأهله أرفع الخلق عنده درجات، وأقربهم إليه وسيلة، فعقد - سبحانه - لواءَ هذه الحرب لخلاصة مخلوقاته، وهو القلب الذي هو محل معرفته، ومحبته، وعبوديته، والإخلاص له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، فولاه أمر هذا الحرب، وأيده بجند من الملائكة لا يفارقونه: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11] يعقب بعضهم بعضاً، كلما ذهب بدل جاء بدل آخر، يثبتونه، ويأمرونه بالخير، ويحضونه عليه، ويعدونه بكرامة الله ويصبرونه، ويقولون: إنما هو صبر ساعة، وقد استرحت راحة الأبد.

ثم أمده - سبحانه - بجند آخر من وحيه وكلامه. فأرسل إليه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل إليه كتابه، فازداد قوة إلى قوته، ومدداً إلى مدده، وعدة إلى عدته، وأيده مع ذلك بالعقل وزيراً له ومدبراً. وبالمعرفة مشيرة عليه ناصحة له، وبالإيمان مثبتاً له ومؤيداً وناصراً، وباليقين كاشفاً له عن حقيقة الأمر، حتى كأنه يعاين ما وعد الله - تعالى -به أولياءه وحزبه على جهاد أعدائه، فالعقل يدبر أمر جيشه، والمعرفة تصنع له أمور الحرب وأسبابها ومواضعها اللائقة بها، والإيمان يثبته ويقويه ويصبره، واليقين يقدم به ويحمل به الحملات الصادقة.

ثم أمد - سبحانه - القائم بهذا الحرب بالقوى الظاهرة والباطنة، فجعل العين طليعته، والأذن صاحب خبره، واللسان ترجمانه، واليدين والرجلين أعوانه، وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له، ويسألون له أن يقيه السيئات ويدخله الجنات، وتولى - سبحانه - الدفع والدفاع عنه بنفسه، وقال: هؤلاء حزبي وحزب الله هم المفلحون، قال الله - تعالى -: {أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: 22] وهؤلاء جندي {وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات].

وعلم - سبحانه - عباده كيفية هذا الحرب والجهاد. فجمعهما لهم في أربع كلمات فقال: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 200] ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة، فلا يتم له الصبر إلا بمصابرة العدو، وهي مقاومته ومنازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر وهو المرابطة، وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل معه العدو، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل، فهذه الثغور منها يدخل العدو فيجوس خلال الديار ويفسد ما قدر عليه، فالمرابط لزوم هذه الثغور، ولا يخلي مكانها فيصادف العدو الثغر خالياً فيدخل منه.

هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الخلق بعد النبيين والمرسلين، وأعظمهم حماية وحراسة من الشيطان، وقد أخلوا المكان الذي اُمروا بلزومه يوم اُحد، فدخل منه العدو، فكان ما كان.

وجماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم عليه هو تقوى الله - تعالى -، فلا ينفع الصبر ولا المصابرة و المرابطة إلا بالتقوى، ولا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر.

فانظر الآن فيك إلى التقاء الجيشين، واصطدام العسكرين، وكيف تدال مرة ويدال عليك مرة أخرى؟ أقبل مَلك الكفَرة وعساكره، فوجد القلب في حصنه جالساً على كرسي مملكته، أمرُه نافذ في أعوانه، وجنده قد حفوا به، يقاتلون عنه ويدافعون عن حَوزته، فلم يمكنه الهجوم عليه إلا بمخابرة بعض أمرائه وجنده عليه، فسأل عن أخص الجند به وأقربهم منه منزله، فقيل له: هي النفس، فقال لأعوانه: ادخلوا عليها من مرادها، وانظروا مواقع محبتها وما هو محبوبها، فعِدوها به، ومنوها إياه، وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها، فإذا اطمأنت إليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها، ثم جروها بها إليكم، فإذا خامرت على القلب وصارت معكم عليه ملكتم ثغور العين والأذن واللسان والفم واليد والرجل، فرابطوا على هذه الثغور كل المرابطة، فمتى دخلتم منها إلى القلب فتخرجكم منها، وإن غُلبتم فاجتهدوا في إضعاف السرية ووهنها، حتى لا تصل إلى القلب، وإن وصلت إليه وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئاً، فإذا استوليتم على هذه الثغور فامنعوا ثغر العين أن يكون نظره اتباراً، بل اجعلوا نظره تفرجاً واستحساناً وتلهياً، فإن استرق نظرة عبرة فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة والاستحسان والشهوة، فإنه أقرب إليه، وأعلق بنفسه، وأخف عليه، ودونكم ثغر العين، فإن منه تنالون بغيتكم، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة، ثم أسقيه بماء الاُمنية، ثم لا أزال أعده واُمنيه حتى اٌقوي عزيمته، وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة، فلا تهملوا أمر هذا الثغر، وأفسدوه بحسب استطاعتكم، وهونوا عليه أمره، وقولوا له: مقدار نظرة تدعوك إلى تسبيح الخالق، والتأمل لبديع صنيعه، وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه، وما خلق الله لك العينين سُدى، وما خلق هذه الصورة ليحجبها عن النظر، وإن ظفرتم به قليل العلم فاسد العقل، فقولوا له: هذه الصورة مظهر من مظاهر الحق ومجلى من مجاليه، فادعوه إلى القول بالاتحاد، فإن لم يقبل فالقول بالحلول العام أو الخاص ولا تقنعوا منه بدون ذلك، فإنه يصير به من إخوان النصارى، فمروه حينئذٍ, بالعفة والصيانة، والعبادة والزهد في الدنيا، واصطادوا عليه وبه الجهال، فهذا من أكبر خلفائي وأكبر جندي، بل أنا من جنده وأعوانه.

ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر، فاجتهدوا أن لا تدخلوا منه إلا الباطل، فإنه خفيف على النفس، تستحليه وتستحسنه، تخيروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب، وامزجوه بما تهوى النفس مزجاً، وألقوا الكلمة، فإن رأيتم منه إصغاء إليها فامزجوه بأخواتها، وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره، وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله أو كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو كلام النصحاء، فإن غلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء فحُولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكير فيه والعظة به، إما بإدخال ضده عليه، وإما بتهويل ذلك وتعظيمه، وأن هذا أمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها إليه، وهو حمل يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك، وإما بإرخاصه على النفوس وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أغلى عند الناس، وأعز عليهم، وأغرب عندهم، وزبونه القائلون له أكثر، وأما الحق فهو مهجور، وقائله معرض نفسه للدعاوة، والرابح بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك، فتدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله ويخف عليه، وتخرجون له الحق في كل قالب يكرهه ويثقل عليه.

وإذا شئت أن تعرف ذلك فانظر إلى إخوانهم من شياطين الإنس، كيف يخرجون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب كثرة الفضول، وتتبع عثرات الناس، والتعرض من البلاء لما لا يطيق، وإلقاء الفتن بين الناس، ونحو ذلك، ويخرجون أتباع السنة ووصف الرب - تعالى -بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قالب التجسيم والتشبيه والتكييف، ويسمون علو الله على خلقه واستواءه على عرشه ومباينته لمخلوقاته تحيراً، ويسمون نزوله إلى سماء الدنيا وقوله: ((من يسألني فأعطيه)) تحركاً وانتقالاً، ويسمون ما وصف به نفسه من اليد والوجه أعضاء وجوارح، ويسمون ما يقوم به من أفعاله حوادث، وما يقوم به من صفاته أعراضاً، ثم يتوصلون إلى نفي ما وصف به نفسه بنفي هذه الاُمور، ويوهمون الأغمار وضعفاء البصائر أن إثبات الصفات التي نطق بها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تستلزم هذه الاُمور، ويخرجون هذا التعطيل في قالب التنزيه والتعظيم، وأكثر الناس ضعفاء العقول يقبلون الشئ بلفظه، ويردونه بعينه بلفظ آخر، قال الله - تعالى -: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإٌنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} [الأنعام: 122] فسماه زخرفاً، وهو باطل. لأن صاحبه يزخرفه ويزينه ما استطاع، ويلقيه إلى سمع المغرور، فيغتر به.

والمقصود: أن الشيطان قد لزم ثغر الأذن أن يدخل فيها ما يضر العبد ولا ينفعه، ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه، وإن دخل بغير اختياره أفسده عليه.

ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان، فإنه الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شئ مما ينفعه من ذكر الله - تعالى -، واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:

أحدهما: التكلم بالباطل، فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعونكم.

والثاني: السكوت عن الحق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم، أما سمعتم قول الناصح: ((المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس)).

فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن الباطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.

واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم وأكبهم منه على مناخرهم في النار فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر؟.

واُوصيكم بوصية فاحفظوها: لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع، فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجيب منها، ويطلب من أخيه إعادتها، وكونوا أعواناً على الإنس بكل طريق، وادخلوا عليهم من كل باب، واقعدوا له كل مَرصد. أما سمعتم قسَمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت: {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 16، 17] أو ما تروني قد قعدت لابن آدم بطرُقه كلها، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره، حتى اُصيب منه حاجتي أو بعضها؟ وقد حذرهم ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: ((إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها، وقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتُسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه وأسلم، فقعد له بطرق الهجرة، فقال: أتهاجر وتَذَرُ أرضك وسماءك؟ فخالفهوهاجر، فقعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة؟)). فهكذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة وقولوا له في نفسه: أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل، وتصير بمنزلته أنت سواء؟ أو ما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه، فقال: هي أموالنا إن أعطيناكوموها صرنا مثلكم، واقعدوا له بطريق الحج، فقولوا طريقة مخوفة مشقة، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال، وهكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير عنها وذكر صعوباتها وآفاتها، ثم اقعدوا لهم على طرق المعاصي فحسنوها في أعين بني آدم، وزينونها في قلوبهم، واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء، فمن أبوابهم فادخلوا عليهم، فنعم العون هن لكم.

ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين، فامنعوها أن تبطش بما يضركم وتمشي فيه.

واعلموا أن أكثر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة. فأعينوها واستعينوا بها، وأمدوها واستمدوا منها، وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة، فاجتهدوا في كسرها وإبطال قواها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها، فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة، وانطاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولوا مكانه النفس الأمارة، فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه، ولا تجيئكم بما تكرهونه ألبتة، مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله، فإن أحسستم من القلب منازعة إلى مملكته، وأردتم الأمن من ذلك فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح، فزينوها وجملوها، وأروها إياه في أحسن صورة عروس توجد، وقولوا له: ذُق طعم هذا الوصال، والتمتع بهذه العروس، كما ذقت طعم الحرب وباشرت مرارة الطعن والضرب، ثم وازن بين لذة هذه المسالمة ومرارة تلك المحاربة، فدع الحرب تضع أوزارها، فليست بيوم وتنقضي، وإنما هو حرب متصل بالموت، وقواك تضعف عن حرب دائم.

واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما:

أحدهما: جند الغفلة، فأغلقوا قلوب بني آدم عن الله - تعالى -والدار الآخرة بكل طريق، فليس لك شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإن القلب إذا غفل عن الله - تعالى -تمكنتم منه ومن إغوائه.

والثاني: جند الشهوات، فزينوها في قلوبهم، وحسنوها في أعينهم، وصُولوا عليهم بهذين العسكرين، فليس لكم من بني آدم أبلغ منهما، واستعينوا على الغفلة بالشهوات، وعلى الشهوات بالغفلة واقرنوا بين الغافلين، ثم استعينوا بهما على الذاكر، ولا يغلب واحد خمسة، فإن مع الغافلين شياطين صاروا أربعة وشيطان الذاكر معهم، وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم - فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين، فقربوهم منهم، وشوشوا عليهم بهم.

وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها، وأدخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته، فساعدوه عليها، وكونوا أعواناً له على تحصيلها، وإذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم، ويصابروكم، ويرابطوا عليكم الثغور، فاصبروا أنتم وصابروا ورابطوا عليهم بالثغور، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب، فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.

واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور، فخذوا عليه طريق الشهوة، ودعوا طريق الغضب، ومنه من يكون سلطان الغضب عليه أغلب، فلا تخلوا طرق الشهوة قلبه، ولا تعطوا ثغرها إن من لم يملك نفسه عند الغضب فإنه بالحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة، فزوجوا بين غضبه وشهوته، وامزجوا أحدهما بالآخر، وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب، وإلى الغضب من طريق الشهوة.

واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين، وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة، وإنما القيت العداوة بين أولادهم بالغضب، فبه قطعت أرحامهم وسفكت دماؤهم، وبه قتل أحد ابني آدم أخاه.

واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، والشهوة نار تثور من قلبه، وإنما تطفأ النار بالماءِ والصلاة والذكر والتكبير، فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوءِ والصلاة، فإن ذلك يطفئ الغضب والشهوة، وقد أمرهم نبيهم بذلك، فقال: ((إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم (من) احمرار عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فمن أحس بذلك فليتوضأ)). وقال لهم: ((إنما تطفأ النار بالماء)). وقد أوصاهم الله أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة، فحُولوا بينهم وبين ذلك، وأنسوهم إياه، واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب، وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها: الغفلة، واتباع الهوى. وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم: ذكر الله، ومخالفة الهوى. فإذا رأيتم الرجل مخالفاً لهواه فاهربوا من ظله، ولا تدنوا منه.

والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه، ويعينهم بها على نفسه، فيقاتلونه بسلاحه، ويكون معهم على نفسه، وهذا غاية الجهل:

 

ما يبغله الأعداء من جاهل **** ما يبلغ الجاهلُ من نفسِهِ

 

ومن العجب أن العبد يسعى بجهده في هوان نفسه، وهو يزعم أنه لها مكرم.

ويجتهد في حرمانها أعلى حظوظها وأشرفها، وهو يزعم أنه يسعى فيحظها، ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدسيتها، وهو يزعم أنه يعليها ويرفعها ويكبرها.

وكان بعض السلف يقول في خطبته: ألا رب مُهينٍ, لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم، ومُذل لنفسه وهو يزعم أنه لها مُعز، ومُصغر لنفسه وهو يزعم انه لها مكبر، ومُضيع لنفسه وهو يزعم أنه مراع لحفظها؟ وكفى بالمرءِ جهلاً أن يكون مع عدو على نفسه، يبلغ منها بفعله ما لم يبلغ منه عدوه، والله المستعان.\"

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply