بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله - تعالى -: \"وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين * وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين * وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم * وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون * وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون\" {الأنفال:3430}.
لقد كان من العجب العاجب أن تقوم قريش في وجه صاحب الدعوة إلى الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وهم أهله وعشيرته وذوو قرباه، وأحق الناس بالانتصار له، والذياد عنهº إن اعتدى عليه أحد، كان عجيبًا حقا أن يقوم هؤلاء بالتأليب عليه وتنفير الناس منه، وهم أولو العصبية وأصحاب الحمية التي ترى أنه لا وجود للقبيلة ما لم يأخذ كل واحد منها بنصرة أخيه على من يعترض له، ويضحي في سبيل ذلك بالنفس والمال إن اقتضى الأمر هذه التضحية.
وكان عجيبا أبلغ العجب أن تتمادى في مساءتة، وتبذل في سبيل ذلك الجهود الكبيرة. ثم لا تكتفي بالسخرية منه وممن اتبعه، ولا بتهديده وتهديد قرابته الأدنين بالمقاطعة والحرمان من الطعام والشراب، ولا بما فعلته من تشريد أنصاره عن أوطانهم، وإصابتهم في أنفسهم وفي أموالهم. وكان أعجب من هذا كله أن يصبر - صلى الله عليه وسلم - على أذاهم ويأمر أصحابه بالصبر، ويزيد في سماحة الخلق وكرم النفس، فيدعو الله أن يهديهم ويوفقهم إلى الاستجابة لهº لأنه يحب لهم الخير، ويعلم أن الخير في اتباع هذا الدين الذي جاء به من عند الله. ولو كان محمد صلوات الله وسلامه عليه رجلا كعامة الرجال لأشفق على نفسه وعلى أصحابه الذين اتبعوه وعلى أعمامه الذين أخذوا أنفسهم بالانتصار له، وإن لم يتركوا دين آبائهم إلى دينه. ولخاف على نفسه وعلى هؤلاء وهؤلاء لجاجة قريش في أذاهم وافتنانها في التنكيل بهم. ولكن كان رجلا عظيم الثقة بأنه على حق يجب أن يخضع له البشر جميعا. قوي الإيمان بأنه ليس ساحرًا ولا كاهنًا ولا شاعرًا ولا اعتراه بعض آلهة قومه بسوء كما كانوا يقولون عنه وأنه لا يتلقى هذا الوحي من الجن كما كان الكهان ولا يتعلمه عن بشر كما زعم قادة الإجرام ولكنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبه لينذر به قوما لدا. وكان مع هذا كله لا يشك في أن الله متم نوره. ومكمل به ما أراد للعالم من الصلاح والسعادة. لذلك لم تهن عزيمته. ولم تضعف قوته، ولم تفت في عضده الأحداث. بل كان كلما زادت قريش وأحلافها في أذاه والنكاية به محاولين صده عن سبيل ربه زاد هو مضاء في دعوته واستهانة بما يلقاه منهم بل كان ذلك أحلى في قلبه وأعذب أن يصبر لله، ويصابر في إعلاء كلمة الله، ويرفع لواء الحق الذي أحبه الله، ويزهق الباطل الذي يبغضه الله. ولو كان محمد صلوات الله عليه رجلا كعامة الرجال لملأ قلبه اليأس، فانصرف عن هذه الدعوة وألقى حملها عن ظهره، فقد لبث في قومه ثلاثة عشر عامًا يدعو ويلح في دعوته، وينذر ويبالغ في إنذاره، فلم يستجب له إلا نفر قليل ليس فيهم صناديد قريش الذين تقتفي العامة آثارهم وتسير على ما يرسمون لها من طريق. وهؤلاء الذين آمنوا معه ليس في استطاعاتهم أن يدفعوا عنه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم. إذا أرادهم القوم بالسوء. ولكن كيف يطرق اليأس نفسه، وهي النفس المملوءة يقينا بأن الله غالب على أمره. والمفعمة ثقة بأن للحق يوما يظهر فيه على الباطل فيدمغه. وإذا كان أهل مكة لم يستجيبوا له، فلماذا لا يطلب النصر عند غيرهم ممن لا يكون قد ملئ حقدًا وحسدًا، ولا يكون فيه من الغرور والكبر ما عند أهل مكة، وليس له من الرياسة الزائفة ما يحرص عليه أهل مكة الذين كانوا يزعموا أنهم سادات الداعين، وهم في خوف أن تقضي هذه الدعوة الجديدة على رياستهم التي لا تعتمد إلا على الغرور والباطل.
ويبدو له هذا الخاطر خاطر أن يعرض على غير قريش من قبائل العرب دعوته التي بعثه الله بها رحمة للعالمين إلى سبل السلام وليخرج الناس من الظلمات إلى النور ومبشرًا بما يستقبل الجزيرة من الفلاح والغلبة. بل بما يستقبل الإنسانية جمعاء من السعادة والرخاء إذا هم اتبعوه وسرعان ما يأخذ في امضاء هذا الخاطر. وكيف يتوانى ويتردد في إمضائه. أليس هو رسول الله إلى الناس كافة؟ أليس هو النور الذي حمل سراجه المنير نازلا من السماء لهداية البشر أجمعين؟ إذن فما باله لا يعرضه لأعين الناس جميعا، ويوجهه إلى قلوب الناس جميعا ليهتدي به من لم يصب عينه عشى الكبر والحسد ومن لم يطبع الله على قلبه، وكيف يتوانى ويتردد في إمضائه! أليس هؤلاء الذين حرص على أن يكونوا أول حملة هذا السراج قد خيبوا ظنه وضيعوا الكثير من آماله؟ فما باله إذن يؤثرهم ويقصر عليهم دعوته؟.
ها هو ذا يمضي إلى الطائف حيث تقيم ثقيف. وها هو ذا يجدٌّ في البحث عن سادة ثقيف وأشرافهم وأهل الرأي فيهم، حتى يجد ثلاثة أخوة، هم يومئذ قادة القوم وأصحاب السلطان فيهم وهم عبدياليل، ومسعود، وحبيب أبناء عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن ثقيف وها هو ذا يجلس إليهم فيدعوهم إلى الله ويكلمهم بما عنده، ويطلب إليهم نصرته والقيام معه على من خالفه من قومه. فيواجهونه بما لا يحب فيقول له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. ويقول الآخر أما وجد الله أحدًا غيرك يرسله؟ ويقول الثالث: والله لا أكلمك أبدًا. لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله فينبغي أن لا أكلمك. فإذا يئس منهم ولم تبد له لائحة خير فيهم قال لهم:\"أما إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني\". يريد ألا يبلغ خبره قريشا فيعلموا هذه الخطة الجديدة فيأخذوا عليه أفواه الطرق ويغلقوا دونه قلوب الناس.
ولم يكن عند ثقيف بقية من كرم الخلق. فلم يقبلوا منه ما جاءهم به ولم تطب أنفسهم بالكتمان عنه بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ويحصبونه بالحصى، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة. وهما جالسان فيه. فعمد إلى ظل كرمة فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء ثقيف. حتى إذا اطمأن في مجلسه وتفرق عنه هؤلاء الأوشاب أخذ يناجي ربه.\"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي. وقلة حيلتي. وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين. وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله\". وأتى كندة في منازلهم فدعاهم إلى الله - عز وجل - وعرض عليهم نفسه. فأبوا عليه. وأتى بطنا من بني كلب يقال لهم بنو عبد الله. فعرض عليهم نفسه فلم يقبلوا منه وأتى بني حنيفة فدعاهم إلى الله فلم يكن أحد أقبح عليه ردًا منهم.
اللهم غفرًا. هذا محمد رسولك وصفوتك من خلقك والداعي إلى صراطك المستقيم وسبيلك الذي رضيته لخلقك يبذل من نفسه كل جهد ولا يألو في إعلان ما أرسلته به، ولا يجد ناصرا ولا يلقي معينا؟. هؤلاء أقاربه قطعوا أواصر القربى ومزقوا كل وشائج الرحم وهلهلوا العواطف التي من شأنها عندهم وعند غيرهم أن تصل فيما بين الناس. وهؤلاء الأباعد يتجهمونه ويغرون به السفهاء والعبيد يصيحون به ويرجمونه بالأحجار ولا يرضون منه بما يرضى به أقل العرب استمساكا بأحسن الأخلاق أن يكتموا عنه ما أفضى به إليهم من دخيلة نفسه وهو مع كل هذه البلايا التي تكفي واحدة منها لزعزعة رواسي الجبال صابر مطمئن النفس عالم أنه ما جاء أحد بمثل ما جاء به إلا عودي وأوذي واثق أن العاقبة للمتقين. وليس يخاف شيئًا إلا أن يكون بك غضب عليه. فعفوك اللهم ورضاك وتأييدك أنه لا معين له سواك.
وتعلم قريش بما كان منه وما كان من ثقيف وكندة وبني حنيفة فيعلمون أنه فكر في الانتصار عليهم بقبائل العرب وأنه أخذ لذلك أهبته. فيحذر بعضهم بعضا ويتناذرون فيما بينهم فصاحة لسانه وشدة أسر بيانه. وما يكون لذلك ولغيره من خلال الخير التي جبله الله عليها من التأثير على الناس حتى ائتمروا فيما بينهم إلا يتركوه يلقي أحدًا ممن يفد على مكة لزيارة البيت الحرام إلا حذروه أمره، ودسوا له ليجنبوه فيما زعموا الخديعة به، فكانوا لا يسمعون بقادم إلا تعرضوا له فقالوا: إنك قد قدمت بلادنا. وقد ظهر بيننا رجل أعضل بنا وفرق جماعتنا وشتت أمرنا. وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجه. وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئًا. وربما كثر الوافدون على مكة كما يكون في موسم الحج، فلم يستطيعوا أن يتحدثوا إلى الوافدين جميعا. فامكنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستطاع أن يلتقي بقوم من الوافدين وأن يعرض عليهم ما عنده، فما هو إلا أن يأخذ في الحديث اليوم حتى يكون الأمر قد بلغ قريشا فتراهم مسرعين إليه يفسدون عليه أمره، حدث عبد الله بن عباس:\"إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف على منازل من العرب فيقول: يا بني فلان. إني رسول الله إليكم. يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا. وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا وتصدقوا بي ومنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به، قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان وعليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بني فلان. إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم. وتسلخوا حلفاءكم من الجن من بني مالك بن اقيش. إلى ما جاء به من البدعة والضلالة. فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. قال عبد الله: فقلت لأبي: يا أبت من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول فقال: هذا عمه عبد العزي بن عبد المطلب. وهو أبو لهب\".
ولكن عين عين الله تلحظه في خطواته كلها، وقد كفل الله له أن يعصمه من الناس. وعنده من اليقين وقوة الإرادة وصادق المعرفة بأنه إذا عز المطلب هانت التضحية في سبيله. فهو لا يبالي محاولة أعداء الحق في إطفاء نوره. ولا يعبأ بما يلاقيه في سبيل بلوغ غايته. وإذا أراد الله انفاذ أمر هيأ له أسبابه. فسار في الطريق الموصلة إليه فلم يعترضه من عقابيل الناس شيء مهما يحكموا أمرها. فقد حدث في السنين الأخيرة من مقامه بمكة أربع حوادث كانت لها الأثر الفعال في عزة الإسلام والمسلمين، أولها أنه قدم مكة قوم من أهل المدينة من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ وأبو الحيسر أنس بن رافع يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج فسمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم فجلس إليهم. فقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له؟ فقالوا: وما ذاك قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل علي الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ أي قوم. هذا والله خير مما جئتم له. فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فيضرب بها وجه إياس بن معاذ ويقول: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا. فصمت إياس. وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم. وانصرفوا بعد ذلك إلى المدينة. ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن تُوفِّي، ويحدث قومه أنه حين حضرته الوفاة لم يزل يهلل الله - تعالى - ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فكان ذلك مبدأ لشعور أهل المدينة بالإسلام وبصاحب الدعوة إليه، فلما كان موسم الحج حدثت الثانية وخلاصتها أن قوما من الخزرج خرجوا لزيارة بيت الله فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقال بعضهم لبعض: وإنه والله للنبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه إلى ما دعاهم إليه وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم وقالوا له\"إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم. فعسى أن يجمعهم الله بك: فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوهم إلى الإسلام. ففشا فيهم حتى لم تبق دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حتى إذا كان الموسم من قابل حدثت الثالثة فقدم مكة اثنا عشر رجلا من أهل المدينة من بني النجار وبني زريق بن عامر وبني عوف بن الخزرج وبني سالم بن عوف وبني سلمة وبني سواد بن غنم. وكل أولئك من الخزرج وبني عبد الأشهل وبني عمرو بن عوف وهما من الأوس فكانت بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين هؤلاء النفر بيعة العقبة الأولى. بايعهم فيها على أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم. ولا يعصونه في معروف. فإن وفوا بذلك فلهم الجنة. وإن فعلوا من ذلك شيئًا فأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، فلما اعتزموا الانصراف إلى المدينة أرسل معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى. وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين. فكان مصعب في المدينة معلما لمن آمن بالله ورسوله. وكان مع ذلك داعية لمن لم يؤمن. فصدق في الدعوة إلى الله وأخلص في النيابة عن رسول الله. فأسلم على يديه جماعة من أهل المدينة منهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير. وهما يومئذ سيدا قومهما بني عبد الأشهل. فلما خالطت حلاوة الإيمان قلب سعد بن معاذ انطلق إلى نادى قومه فلما وقف عليهم قال\"يا بني عبد الأشهل. كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا. وأوصلنا. وأفضلنا رأيا. وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فلم يمس في دور بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا دخل الإيمان إلى قلبه. فلما كانت الحجة القابلة حدثت الرابعة وهي بيعة العقبة الكبرى التي بايع النبي فيها أهل المدينة على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأعطاهم الرسول يده على أن يقيم بين أظهرهم ولا يعود إلى الإقامة بين أهل مكة وأن أظهره الله عليهم، وعلى أن ذمته ذمتهم وحرمته حرمتهم يحارب من حاربوا ويسالم من سالموا وأعطوه العهد على أنهم وافون له على نهكة الأموال وقتل الأشراف\".
وتبلغ هذه الأخبار كلها قريشا فيهولها الأمر. ويفزعها أن يجد محمد والصبأة من أصحابه أعوانا في يثرب يصيبون بهم منعة إن يشاءوا. ثم يملك عليهم نواحي تفكيرهم أن يروا هؤلاء الصبأة يتسللون إلى إخوانهم في يثرب. فيدعون إلى اجتماع عام في دار الندوة يتشاورن فيما يأخذون وما يدعون من أمر هذا الذي أعياهم بصبره وحسن تجلده ويجتمعون فيكون منهم ما قص الله - تعالى - في كتابه الكريم في الآيات التي تلوت في صدر هذا الكلام اجتمعوا ليمكروا به. واختلفوا فيما يكون منهم ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
ووقع الذي حذروه وتخوفوه منه فخرج الرسول. وترك لهم البلد الحرام وهذا الحرم الآمن الذي أمن فيه كل شيء حتى الطير ولم يأمن فيه محمد ولا أصحاب محمد على أنفسهم ولا على أموالهم وهم أحق وأولى بهذا الأمن من كل أحد لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما جاءهم بأمن الدنيا والآخرة.
وتحق على أهل هذه القرية الظالم أهلها بإخراجهم رسول الله وصحبه من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله تحق عليهم من بعد ذلك كلمة العذاب. فما كان الله - تعالى - ليعذبهم والرسول بين ظهرانيهم ويسلط عليهم ضروبا من عذاب الدنيا أهونها عليهم أن يأذن لرسوله في أن يقتلهم ويستبيح أموالهم أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله {الحج:39،40}، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم {التوبة:14،15}. وأشدها إيلاما لهم وحزا في نفوسهم أن تتناهى إليهم الأخبار يوما بعد يوم أن قبائل العرب تدخل في دين الله أفواجا وأن أصحاب محمد الذي أخرجوه قد صاروا جندًا كثيرًا، وما النصر إلا من عند الله.
والله من وراء القصد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد