الإخلاصُ ثمرةُ المعرفة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد فإن الإخلاص في اللغة: النجاة، يُقال: خلص الشيء: إذا نجا وسلم من كل نَشَبٍ,، والمخلص الذي وحَّد الله - تعالى - خالصاًº ولذلك قيل لسورة (قل هو الله أحد): سورة الإخلاصº لأن المتحقق بها قد أخلصَ التوحيدَ لله - عز وجل -.

كما يأتي الإخلاصُ بمعنى الاختصاص، فيُقال: استخلص الشيء لنفسِه: أي اختصَّ نفسَه به، فكذلك إخلاص العمل لله: أن تخصَّ به اللهَ دون غيره.

 

أما في الاصطلاح، فقد ذكر العلماءُ معانيَ كثيرةً للإخلاص، لكنَّ أكثرَها شمولاً هو قولُ أبي محمد سهل بن عبد الله التستري:\"نظَرَ الأكياسُ، فلم يجدوا غيرَ هذا: أن تكون حركاتُه وسكناتُه في سرِّه وعلانيتِه لله - تعالى - وحدَه لا يُمازجه شيءٌ: لا هوى ولا نفسٌ ولا دنيا\".

 

فالإخلاصُ من أعظم الصفات التي يتصف بها المسلم، قال - تعالى -: (ومن أحسنُ قولاً ممن أسلمَ وجهَه لله وهو مُحسنٌ) [النساء 125]. فإسلام الوجه: إخلاصُ القصد والعمل لله، والإحسانُ فيه: متابعةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسُنته، قال - تعالى -: (الذي خلق الموتَ والحياةَ ليبلوَكم أيكم أحسنُ عملاً) [الملك 2]، قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: هو أخلصُه وأصوبُه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصُه وأصوبُه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبَلº حتى يكون خالصاً صواباً، والخالصُ أن يكون لله، والصوابُ: أن يكون على السنة. قال الله - عز وجل -: (فمن كان يرجو لقاءَ ربِّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادةِ ربِّه أحداً) [الكهف 110]، وقال - تعالى -: (قل إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا أولُ المسلمين) [الأنعام 162-163].

 

وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث لا يُغَلٌّ عليهن قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ أئمة المسلمين، ولزومُ جماعتِهمº فإنَّ دعوتَهم تُحيط مَن وراءهم) [رواه الترمذي وأحمد]. والمعنى أنَّ القلبَ لا يحمل الغِلَّ ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثº فإنها تنفي الغِل والغش وفساد القلب وسخائمه. فإخلاصُ المسلم يمنع غلَّ قلبِه، ويُخرجه ويُزيله جملةًº لأنه قد انصرفت دواعي قلبِه وإرادته إلى مرضاةِ ربِّهº فلم يبقَ فيه موضعٌ للغل والغش. فينبغي لكل مسلمٍِ, أن يخلصَ عملَه لله - عز وجل -، وأن يسأل الله أن يمنَّ عليه بهذه الصفة الحميدة وهذه الخصلة العظيمةº فقد قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: تركُ العملِ لأجلِ الناسِ رياءٌ، والعمل لأجل الناسِ شرك.

 

قال الحافظ ابنُ حجر: المرء يؤجر بنيتِه كما يؤجر العاملº فسَلِ اللهَ الإخلاص وتجنب الرياء، قال علي بن الحسين: إني لأستحيي من الله أن أرى الأخَ من إخوانيº فأسأل الله له الجنةَ وأبخل عليه بالدنياº فإذا كان غدا قيل لي: لو كانت الدنيا بيدك كنتَ بها أبخلَ وأبخل. وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تحسِّن في لوائحِ العيون علانيتي، وتُقبِّح في خفياتِ العيون سريرتيº اللهم كما أسأتُ فأحسنتَ إليَّº فإذا عدتُ فعد عليَّ.

 

فإخلاصُ النيةِ واجِبٌ من الواجباتِ، قال عون بن عمارة:\"سمعتُ هشاماً الدستوائي يقول: واللهِ ما أستطيعُ أن أقولَ: إني ذهبتُ يوماً قط أطلبُ الحديثَ أُريد به وجهَ الله - عز وجل -\". قال الإمام الذهبي - رحمه الله - معلقاً على قول هشام الدستوائي:\"واللهِ ولا أناº فقد كان السلف يطلبون العلمَ للهº فنبلوا وصاروا أئمةً يُقتدى بهم، وطلبَه قومٌ منهم أولاً لا لله وحصَّلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسَهمº فجرَّهم العلمُ إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلمَ وما لنا فيه كبيرُ نيةٍ, ثم رزقَ اللهُ النيةَ بعدُ، وبعضُهم يقول: طلبنا هذا العلمَ لغير الله فأبى أن يكونَ إلا لله. فهذا أيضاً حسنٌ، ثم نشروه بنيةٍ, صالحة. وقومٌ طلبوه بنيةٍ, فاسدةٍ, لأجل الدنيا، وليُثنَى عليهمº فلهم ما نوَوا، قال - عليه السلام -: ((مَن غزا ينوي عقالاًº فله ما نوى)) [رواه أحمد والدارمي والنسائي]. وترى هذا الضربَ لم يستضيئوا بنور العلم ولا لهم وقعٌ في النفوس، ولا لعلمهم كبيرُ نتيجةٍ, من العملº وإنما العالمُ مَن يخشى اللهَ - تعالى -، وقومٌ نالوا العلمَ وولوا به المناصبº فظلموا وتركوا التقيٌّدَ بالعلم وركبوا الكبائرَ والفواحشَº فتباًّ لهم فما هؤلاء بعلماء! وبعضُهم لم يتقِ الله في علمِه، بل ركبَ الحِيَلَ وأفتى بالرٌّخَص وروى الشاذَّ من الأخبار، وبعضُهم اجترأ على الله ووضعَ الأحاديثَ فهتكه الله وذهبَ علمُه وصار زادَه إلى النار. وهؤلاء الأقسامُ كلٌّهم رَوَوا مِن العلم شيئاً كبيراً، وتضلَّعوا منه في الجملة، فخلفَ من بعدِهم خلفٌ بان نقصُهم في العلم والعمل، وتلاهم قومٌ انتمَوا إلى العلم في الظاهر، ولم يُتقنوا منه سوى نزرٍ, يسيرٍ,º أوهموا به أنهم عُلماء فُضلاء، ولم يَدُر في أذهانِهم قط أنهم يتقربون به إلى اللهº لأنهم ما رأوا شيخاً يُقتدى به في العلمº فصاروا همجاً رعاعاً، غاية المدرس منهم أن يُحصِّل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ماº فيُصحِّف ما يُورده ولا يُقرِّرهº فنسأل اللهَ النجاةَ والعفوَ، كما قال بعضُهم: ما أنا عالمٌ ولا رأيتُ عالماً. وقال رجلٌ لابن الجوزي - رحمه الله -: ما نمتُ البارحةَ مِن شوقي إلى المجلسº قال: لأنك تريد الفُرجةº وإنما ينبغي الليلةَ أن لا تنام. فأخلص تُفلح وتمنَّ دائماً وأبداً صفاءَ النية، قال أبو يزيد البسطامي - رحمه الله -: لو صفا لي تهليلةٌ ما باليتُ بعدَها. وسَلِ اللهَ أن يُعافيَك مِن سُوء النيةº فإنَّ عاقبةَ ذلك وَخِيمةٌ جدا. روى أحمد بن زهير عن يحيى قال: إذا رأيتَ إنساناً يقع في عكرمة وحماد بن سلمةº فاتهمه على الإسلام، وقال عبد الله بن المبارك - رحمه الله -: رُبَّ عملٍ, صغير تُكثِّره النية، ورُبَّ عملٍ, كثير تصغِّره النية! وقال: مَن استخفَّ بالعلماء ذهبت آخرتُه، ومن استخفَّ بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخفَّ بالإخوانِ ذهبت مروءتُه. واعلم أن العملَ كلَّه هباءٌ إلا بالإخلاص، وأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصلº فاصدُق النيةَ مع الله - تعالى -º فمن صَدَقَ اللهَ علا، قال سفيان بن عيينة - رحمه الله -: ما أخلصَ عبدٌ لله أربعين يوماً إلا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبِه نباتاً وأنطقَ لسانَه بها، وبصَّرَه عُيوبَ الدنيا: داءها ودواءهاº وهذه ثمرةٌ من ثمرات الإخلاص. سُئل حمدون القصار: ما بالُ كلامِ السلف أنفع من كلامِنا؟ فقال\"لأنهم تكلموا لعزِّ الإسلام ونجاةِ النفوسِ ورضا الرحمنº ونحن نتكلم لعزِّ النفوسِ وطلبِ الدنيا ورضا الخلق\"!

 

ولا يخفى أنَّ ما ذكره الذهبي - رحمه الله - من حالِ علماء السوء قد عمت به البلوى في هذا الزمان، وأدهى من ذلك وأمر أن يُفتيَ أحدُهم بالفتوى مُخالِفاً لنصوصِ القرآن والسنة وإجماعِ سلفِ الأمةº فنسأل اللهَ النجاةَ والعفوَ، قال أُويس القرني - رحمه الله -: وإذا قمتَ فادعُ اللهَ أن يُصلحَ لك قلبَك ونيتَكº فلن تُعالجَ شيئاً أشدَّ عليك منهما. فمن خلصت نيتُه في الحق ولو على نفسِه كفاه الله ما بينَه وبين الناس. وقال محمد بن واسع - رحمه الله -: إن الرجل ليبكي عشرين سنةً وامرأتُه لا تعلم!

 

فلله در المخلصينº فإخلاصُهم سرُّ مصونٌ في مسكِ القلبِ ينبِّه ريحُه على حالِه. وحتى تلحق بقوافل المخلصين اعلم أنه لا ينفع قولٌ إلا بعملٍ,، ولا ينفع قولٌ ولا عملٌ إلا بنيةٍ,، ولا ينفع قولٌ ولا عملٌ ولا نيةٌ إلا بما وافقَ السنة.

 

وحتى تلحقَ بقوافلِ المخلصين عِش سالمَ الصدرِ طاهرَ القلبِ عن الغش والغل وسائرِ أمراضِ النفوس، ولا تحضر مواطنَ الغِيبة ولا تُشارك المغتابين، ولا تحتقر أحداً من عبادِ الله صالحاً أو طالحاًº لأن أفعالَهم تجري على ما سبقَ به القضاء وكتب القلم.

 

اللهم ارزقنا الإخلاصَ في القولِ والعملِ والقصد، وارزقنا الإخلاصَ في السر والعلن، اللهم أحيِنا مُخلِصين وتوفَّنا مُخلِصين واحشرنا مع المخلِصين يا ربَّ العالمين. آمين.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply