لا تنظر إلى صِغَرِ الذنب ولكن انظر مَن عصيت


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كانت هذه الكلمة: (لا تنظر إلي صغر الذنب، ولكن انظر من عصيت)، من الكلمات التي نفعني الله بها. فإن النظر إلي تقسيم الذنوب إلي صغائر وكبائر مع جهل هذا التقسيم قد يؤدي إلى وقوع المسلم في أكبر الكبائر، وهو يظن أنه لم يرتكب إلا الصغائر. وتفصيل هذا الأمر على النحو التالي:

الدين قسمان: خبر وأمر:

 

الدين الذي تعبدنا الله به قسمان: خبر وأمر.

 

فالخبر هو ما قصّه الله علينا من شأن الغيب الذي لا نراه، ولا سبيل لنا إلي معرفته إلا بإخبار الله - سبحانه و تعالى -، وأصول الغيب هي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله - تعالى -.

 

وأما الأمر فهو ما ندب الله العباد إليه من أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن ينتهوا عما حرم عليهم، وأن يقفوا عند حدوده.

 

الدين الذي لا يقبل الله من عباده غيره هو الإسلام:

والدين الذي لا يقبل الله من عباده غيره هو الإسلام، ومعناه الاستسلام لله بتصديق خبره وتنفيذ أمره، قال - تعالى -: (إنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإسلامُ)]آل عمران:19[، وقال - جل وعلا -: (ومَن يَبتَغِ غَيرَ الإسلامِ دِيناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ)]آل عمران: 85[.

 

تكذيب الخبر كفر، وردّ الأمر كفر:

ومن رد خبر الله - سبحانه و تعالى - وكذب بشيء من الغيب الذي قصه علينا فقد كفر، وكذلك من رد أمر الله - سبحانه و تعالى - وأبى أن يطيعه استكباراً وعناداً فقد كفر. والمعصية الأولى التي عصى بها إبليس ربه كانت من النوع الثاني، أعني أنها رد الأمر، فإن الله قد أمر بالسجود لآدم، فقال: (قَالَ أَأَسجُدُ لِمَن خَلَقتَ طِيناً)]الإسراء:61[، ولم يكن إبليس - لعنه الله - مكذباً بشيء من أخبار الله، وإنما انحصرت معصيته في رد الأمر الإلهي كبراً وعلواً، عندما ظن أن هذا الأمر يخالف الحكمة، إذ زعم أن الفاضل لا يسجد للمفضول، وقد رأى نفسه - وقد خُلق من النار - أفضل من آدم المخلوق من الطين، وقياس إبليس قياس فاسد. ولما أصر إبليس على معصيته كان جزاؤه أن لعنه الله أبداً، وطرده من رحمته سرمداً. فالمعصية إذا كانت إباءً ورداً للأمر الإلهي، كانت كفراً من أجل ذلك. والمعصية الثانية التي عُصي بها الله سبحانه وتعالى - وقعت من آدم - عليه السلام - ولما تكُن عناداً، وإنما كانت ضعفاً ونسياناً كما قال - تعالى -: (ولَقَد عَهِدنَا إلَى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ ولَم نَجِد لَهُ عَزماً)]طه:115[ثم إن آدم لم يصر عليها ولم يحتجّ بها بل سارع إلى الفرار منها والاعتذار عنها قال - تعالى -: (ونَادَاهُمَا رَبّهُمَا أَلَم أَنهَكُمَا عَن تِلكُمَا الشّجَرَةِ وأَقُل لّكُمَا إنّ الشّيطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مّبِينٌ. قَالا رَبّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وإن لّم تَغفِر لَنَا وتَرحَمنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الخَاسِرِينَ)]الأعراف:22-23[.

 

فلما اعترف آدم وزوجته بالخطيئة وسارعا إلى التوبة والإنابة، فإن الله - سبحانه - قبِل عذره، وأقال عثرته. والناظر في معصية آدم يجد أن هذه المعصية قد كانت مخالفة للأمر الإلهي فقط، فإن الأكل من شجرة في الجنة ليس إثماً في ذاته، ولا فاحشة في ذاتها، لولا أنه معصية الله الذي أمره ألا يأكل من هذه الشجرة.

 

العبودية هي طاعة الأمر:

والعبودية لله إنما هي في طاعة أمره أياً كان هذا الأمر - في صغير أو كبير - فيما يوافق معقول المأمور، أو يخالف معقوله. فإن الرب الإله - سبحانه و- تعالى - هو أعلم بما يأمر به وينهى عنه، والعبد لا يكون عبداً على الحقيقة إلا إذا أطاع معبوده دون تردد أو توقف أو نظر أو سؤال لِمَ أمر بكذا؟ ولِمَ نهى عن كذا؟ ولو كان العبد لا يطيع إلا فيما عقَل وفهم لكانت طاعته لمعقوله ومفهومه وليس لخالقه وإلهه ومولاهº فإن الإنسان يطيع عقله، وقلبه في أشق الأمور على نفسه وبدنه بل قد يركب الصعب والذلول في تنفيذ ما يأمره به سلطان العقل، أو سلطان القلب والهوى. ولو كانت طاعة الله تابعة لسلطان العقل والقلب والهوى لكان المعبود حقاً هو العقل والقلب والهوى، وليس الله - سبحانه و تعالى - بل العبودية أن يطيع العبد ربه فيما يخالف سلطان عقله وقلبه وهواه. بل إن الدين قائم على مخالفة ما تهواه النفوس، وما يخالف رأي الإنسان ومعقوله أحياناً وهذا هو معنى التعبد لله.

 

ولا يمنع أن يكون في الدين ما يوافق معقول الإنسان ونظره، ولكن الله - سبحانه و- تعالى - شاء أن يتعبد عباده بما يحكم به هو - سبحانه و تعالى - لا بما يرونه بأنفسهم أو يعقلونه بعقولهم، أو تهواه أنفسهم.

 

إبراهيم - عليه السلام - المثال والقدوة والأسوة:

هذا نبي الله إبراهيم جعله الله إماماً للناس جميعاً، وجعل النبوة في ذريته دون سائر البشر، ولم يصل إبراهيم - عليه السلام - إلى ما وصل إليه إلا أنه أُمر بأوامر إلهية تخالف معقول البشر فنفذها إبراهيم - عليه السلام - على النحو الذي أمره الله بها تماماً، وكان مما أمر به مما يخالف معقول البشر أن يلقي زوجته هاجر وابنها إسماعيل في أرض مقفرة موحشة لا إنس فيها ولا شيء وهي أرض مكة، وليس معهم أحد على الإطلاق وليس لهم من الزاد إلا جراب تمر، وقربة ماء. ثم كر عائداً وحده إلى بلاد الشام.

 

وهذا الأمر الإلهي لإبراهيم - عليه السلام - يخالف معقول البشر فإن أحداً لو فعل ذلك من عند نفسه لكان فعله جريمة وإثماً

 

وكذلك أمره الله - سبحانه و تعالى - بأن يقتل ابنه - بِكره - إسماعيل - عليه السلام - بعد أن شبّ وبلغ مبلغ الرجال فسارع إلى تنفيذ الأمر دون تلكؤ أو نظر، أو تسويف، ولو أن إنساناً عمد إلى أن يقتل ابنه دون أمر من الله لكان هذا جريمة وإثماً، فقد روى الإمام البخاري - رحمه الله - بإسناده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (أول ما اتخذ النساء المِنطَق من قِبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتُعَفّي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك، ووضع عندها جراباً فيه تمر وسِقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال:\"رَبّنَا إنّي أَسكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ, غَيرِ ذِي زَرعٍ, عِندَ بَيتِكَ المُحَرّمِ\"]إبراهيم:37[حتى بلغ\"يَشكُرُونَ\"وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها فجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبّط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات)، قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فذلك سعى الناس بينهما) فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صَه - تريد نفسها - ثم سعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أَسمعتَ إن كان عندك غواث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم فبحث بعَقِبِه - أو قال: بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تُحوّضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.. قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من زمزم - لكانت زمزماً عيناً مَعيناً) قال: (فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضّيعَة، فإن هذا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرهُم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كُدَاء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعَهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حَقّ لكم في الماء قالوا: نعم.

 

قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأُنس)، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلّم العربية منهم، وأَنفَسَهُم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تّرِكته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بِشَرّ، ونحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك اقرئي - عليه السلام - وقولي له يغيّر عَتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنَس شيئاً فقال: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألَنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أَنّا في جهد وشدة،قال فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول: غّيّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحَقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم امرأة أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولم يكن لهم يومئذ حَبّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه) قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي - عليه السلام - ومُرِيهِ يثبّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أَنّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟، قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبرِي نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أَكَمَة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يناوله الحجارة يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: (رَبّنَا تَقَبّل مِنّا إنّكَ أَنتَ السّمِيعُ العَلِيمُ)]البقرة:127[قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان:\"رَبّنَا تَقَبّل مِنّا إنّكَ أَنتَ السّمِيعُ العَلِيمُ\"]البقرة:127[.

 

الجانب التعبدي في الإسلام كبير جداً:

وإذا كانت الشريعة المنزلة على محمد - صلى الله عليه وسلم - في عمومها مما يوافق معقول أهل العقل والحجا والحكمة إلا أن الجانب التعبدي فيها كبير جداً.. فإن مواقيت الصلاة، وأعداد الركعات، وهيئات الصلاة، وكون الزكاة في بعض الأموال وليست في جميعها، وتقدير النصاب، وصفة الصوم، وأعمال الحج من طواف وسعي وتقبيل للحجر الأسود، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، كل ذلك من الأمور التعبدية التي يراد منها ابتلاء طاعة العباد لربهم وخالقهم - سبحانه و تعالى -. كما أن الحدود والعقوبات الشرعية الشأن فيها التعبد لله - سبحانه و- تعالى - بتنفيذ أمره والانتهاء عن نهيه - جل وعلا-   

وكذلك ما أباحه الله وما حرمه.. فإن الله أباح البيع وحرم الربا، وقد يكسب البائع في بيعه ألفاً في المائة وقد يكون الربا المحرم درهماً في الألف ويبقى الربا حراماً والبيع حلالاً وقد أُمرت المرأة أن لا تَحُدّ على ميت أكثر من ثلاثة أيام ولو كان الميت أعز الناس لديها كابنها وأخيها وأبيها، ولكنها يجب أن تحد على زوجها أربعة أشهر وعشراً.

 

ولا شك أن وراء كل أمر إلهي حكمة عليا قد يخبرنا الله بها، وقد يهدينا إلى معرفتها، وقد يخفيها عنا، وفي كل ذلك يجب على المكلف أن يسمع ويطيع، وأما إن علّق طاعته لله على فهمه ومعقوله ومعرفته لحكمة الآمِر فإنه لا يكون عابداً لله على الحقيقة ولو رد الأمر الإلهي ظاناً أنه مخالف للحكمة والعقل لكان كافراً وكان كفره ككفر إبليس الذي لم تكن جريمته إلا رد الأمر الإلهي كفراً وكبراً وعناداً.

 

كل رد للأمر الإلهي كبيرة مخرجة من الدين:

وهكذا فكل رد للأمر الإلهي - مهما كان هذا الأمر في صغير أو كبير في أمر معقول المعنى - عند المأمور - أو أمر غير معقول المعنى - هو كفر بالله وخروج من رحمته.

 

كبائر الذنوب وصغارها التي لا تخرج من الملة:

وأما الكبائر والصغائر التي لا تُخرج من ملة الإسلام فهي ما يرتكبه العبد من الذنوب مع اعتقاد أنها معصية، وأنها إثم وذنب، فالزنا والربا وأكل مال الناس بالباطل، وشرب الخمر، كل ذلك من الكبائر والعظائم، ومن فعلها معتقداً أنه فعل إثماً كبيراً فإنه يبقى في مسمى الإيمان والإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا إذا انتفى من قلبه الشعور بالإثم، ورأى أنه لم يفعل ما يُعَاقَبُ عليه، وكذلك الأمر في صغائر الذنوب كالغمزة الواحدة، واللمزة والكذبة التي لا يجوز فيها، فإن من ارتكبها مع اعتقاده بحرمتها بقي في دائرة العافية ومسمى الإيمان، ومن ارتكبها مستحلاً لها نافياً عن نفسه الإثم فيما ارتكبه فهو خارج عن مسمى الإيمان كافر بالله - سبحانه و تعالى -.

 

تعظيم أمر المعصية:

وكل عباد الله المخلصين من الأنبياء والمرسلين وأولياء الله الصالحين.. بل وملائكته المقربين كانوا يعظمون معصية الله في الصغير والكبير.. فإن النظر يجب أن يكون فيمن عصاه العبد لا فيما عصى فيه العبد.

 

لماذا كانت المعصية شيئاً عظيمًا؟

المعصية في ذاتها شي عظيمº لأنها مخالفة لأمر الرب الإله الذي لا إله إلا هو، خالق السموات والأرض، وخالق كل شيء، وهو رب كل شيء ومليكه الذي خضع له كل شيء، وذَلّ له كل شيء، فهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير الذي لا يغيب عنه من شئون عباده صغير ولا كبير.. فهو القائم على كل نفس بما كسبت، والذي (لا يَعزُبُ عَنهُ مِثقَالُ ذَرّةٍ, فِي السّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرضِ)]سبأ:3[، الذي تخافه الملائكة العظام وتكاد السموات أن يتفطرن من فوقهن فرقاً وخوفاً منه. والذي يمسك السموات والأرض أن تزولا... والذي لا يحيط أحد من خلقه علماً به، وهو يحيط علماً بكل مخلوقاته، ولا يغيب عنه سبحانه خطرات نفوسهم ولا نزعات قلوبهم، ولا وساوس صدورهم، الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، والذي لا يقبل من أحد من مخلوقاته إلا الإذعان له، والاستسلام لأمره. والذي يكرم من شاء من خلقه وعباده فلا يكون لإكرامه منتهى ولا لعطائه حد، ويهين من شاء من خلقه، فلا تكون لإهانته مثيل، ويعذب من أراد من عبيده، فلا يكون لعذابه نهاية، ولا لعذابه شبيه (فَيَومَئِذٍ, لاّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ. ولا يُوثِقُ وثَاقَهُ أَحَدٌ)]الفجر:25-26[، وهو الرب الإله الذي جعل الخلق كله له، فلا يخلق إلا هو، ولا يستطيع غيره أن يخلق ذرة، ولا بُرّة، ولا ذباباً،. والذي يملك نفع خلقه وضرهم فلا يملك غيره لأحد من خلقه لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء هو.. وهو الرب الإله خالق السموات والأرض الذي لا يكرثه ولا يتعبه خلق السموات والأرض ولا حفظهما في أماكنها ومداراتها. فمن ذا يستطيع أن يضع الشمس في مكانها غيره، وأن يضع القمر في مكانه غيره، والنجوم في مساراتها، والمجرات في مجاريها.. ومن الذي أتقن كل ذلك، قال - تعالى -: (إنّ اللّهَ يُمسِكُ السّمَوَاتِ والأَرضَ أَن تَزُولا ولَئِن زَالَتَا إن أَمسَكَهُمَا مِن أَحَدٍ, مِن بَعدِهِ إنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)]فاطر:41[. فهو مالك الملك كله، ومدبر الكون كله لم يساعده أحد ولم يعاونه أحد في خلق الكون، ولا حفظه، بل هو الخالق لكل ما في الكون والحافظ له، والمقيم له، وهو الذي يفرط عِقد هذا الكون وقتما شاء ويبدل السموات والأرض وقتما يريد، قال - تعالى -: (إذَا السّمَاءُ انفَطَرَت. وإذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَت. وإذَا البِحَارُ فُجّرَت. وإذَا القُبُورُ بُعثِرَت. عَلِمَت نَفسٌ مّا قَدّمَت وأَخّرَت)]الانفطار:1-5[. وقال - تعالى -: (إذَا الشّمسُ كُوّرَت. وإذَا النّجُومُ انكَدَرَت. وإذَا الجِبَالُ سُيّرَت. وإذَا العِشَارُ عُطّلَت. وإذَا الوُحُوشُ حُشِرَت. وإذَا البِحَارُ سُجّرَت. وإذَا النّفُوسُ زُوّجَت. وإذَا المَوءُودَةُ سُئِلَت. بِأَيّ ذَنبٍ, قُتِلَت. وإذَا الصّحُفُ نُشِرَت. وإذَا السّمَاءُ كُشِطَت. وإذَا الجَحِيمُ سُعّرَت. وإذَا الجَنّةُ أُزلِفَت. عَلِمَت نَفسٌ مّا أَحضَرَت)]التكوير:1-14[وقال - تعالى -: (إذَا السّمَاءُ انشَقّت. وأَذِنَت لِرَبّهَا وحُقّت. وإذَا الأَرضُ مُدّت. وأَلقَت مَا فِيهَا وتَخَلّت. وأَذِنَت لِرَبّهَا وحُقّت. يَا أَيّهَا الإنسَانُ إنّكَ كَادِحٌ إلَى رَبّكَ كَدحاً فَمُلاقِيهِ)]الانشقاق:1-6[هذا الرب الإله - سبحانه و- تعالى - الذي وصف نفسه في القرآن فقال: (إنّ رَبّكُمُ اللّهُ الَذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأَرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ, ثُمّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُغشِي اللّيلَ النّهَارَ يَطلُبُهُ حَثِيثاً والشّمسَ والقَمَرَ والنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ, بِأَمرِهِ أَلا لَهُ الخَلقُ والأَمرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبّ العَالَمِينَ)]الأعراف:54[. وقال - جل وعلا -: (اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ الحَيّ القَيّومُ لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَومٌ لّهُ مَا فِي السّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرضِ مَن ذَا الَذِي يَشفَعُ عِندَهُ إلاّ بِإذنِهِ يَعلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِم ومَا خَلفَهُم ولا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ, مّن عِلمِهِ إلاّ بِمَا شَاءَ وسِعَ كُرسِيّهُ السّمَوَاتِ والأَرضَ ولا يَئُودُهُ حِفظُهُمَا وهُوَ العَلِيّ العَظِيمُ)]البقرة:255[. وقال - جل وعلا -: (اللّهُ الَذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأَرضَ ومَا بَينَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ, ثُمّ استَوَى عَلَى العَرشِ مَا لَكُم مّن دُونِهِ مِن ولِيٍ,ّ ولا شَفِيعٍ, أَفَلا تَتَذَكّرُونَ. يُدَبّرُ الأَمرَ مِنَ السّمَاءِ إلَى الأَرضِ ثُمّ يَعرُجُ إلَيهِ فِي يَومٍ, كَانَ مِقدَارُهُ أَلفَ سَنَةٍ, مّمّا تَعُدّونَ. ذَلِكَ عَالِمُ الغَيبِ والشّهَادَةِ العَزِيزُ الرّحِيمُ. الّذِي أَحسَنَ كُلّ شَيءٍ, خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ,. ثُمّ جَعَلَ نَسلَهُ مِن سُلالَةٍ, مّن مّاءٍ, مّهِينٍ,. ثُمّ سَوّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وجَعَلَ لَكُمُ السّمعَ والأَبصَارَ والأَفئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشكُرُونَ)]السجدة:4-9[وقال - جل وعلا -: (اللّهُ الَذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأَرضَ وأَنزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزقاً لّكُم وسَخّرَ لَكُمُ الفُلكَ لِتَجرِيَ فِي البَحرِ بِأَمرِهِ وسَخّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ. وسَخّرَ لَكُمُ الشّمسَ والقَمَرَ دَائِبَينِ وسَخّرَ لَكُمُ اللّيلَ والنّهَارَ. وآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلتُمُوهُ وإن تَعُدّوا نِعمَتَ اللّهِ لا تُحصُوهَا إنّ الإنسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ)]إبراهيم:32-34[، وهكذا فإن معصية هذا الرب العظيم الكبير المتعالي أمر عظيم، ومخالفته فيما أوجب على عباده أمر كبير جداً.

 

حق الله على عباده أكبر من كل ما يأمرهم به:

ثم إن مما يجعل من مخالفة أمر الله - سبحانه و تعالى - أمراً عظيماً وإثماً كبيراً هو أن حق الله على عباده أكبر مما يأمرهم به، فإن الله هو خالق الخلق، ومدبر شئونهم، والمتفضل عليهم بنعمة الوجود أولاً، ثم ما من نعمة إلا وهي منه - سبحانه و تعالى -، فهو وحده الرازق لكل عباده وهو ربهم الذي يكلؤهم ويرعاهم، ويربيهم برحمته، وليس لهم رب سواه، ولا إله غيره. ولو أمر عباده بما أمر فإن هذا حقه على عباده فإنه خالقهم وربهم، ومنشئهم من العدم، ومع ذلك فلا يكلف سبحانه وتعلى نفساً إلا وسعها ولا يأمر عباده إلا بما ينفعهم، وإذا أمرهم فإنه يأمرهم وهو غني عنهم، غير فقير لعبادتهم، وعبادة العباد له هي من جملة الفضل الذي يتفضل به عليهمº لأنها سبب لزكاتهم وطهارتهم وسبب لنيل مرضاته ورحمته وجائزته وهكذا تصبح معصية العاصي أمراً عظيماً وإثماً كبيراًº لأنه مخالف للرب الإله الذي أحسن وأكرم، وخلق ورزق، وتحنن على عبده.

 

المفهوم الشمولي لمعنى الذنب:

وإذا عرف العبد ربه على الحقيقة، وأنه خالقه ورازقه، ومتولي شئونه، ومن بيده نفعه وضره، ومن يعلم علانيته وسره، وحياته ومماته، وأن العبد لا يستغنى عنه طرفة عين، علم أن حق الله على عباده أن يطيعوه فلا يعصوه، وأن يشكروه ولا يكفروه، وأن يذكروه ولا ينسوه، وأن يتقوه حق تقاته، وكل تقصير في هذه الحقوق تقصير ومعصية، فالغفلة ولو للحظة واحدة عن ذكر الله إثم، وعدم القيام بشكر نعمة واحدة من نعم الله التي لا تحصى إثم، ومعصية أمر الله في الكبير والصغير إثم.

 

وقد أمر الله عباده أن يتقوه حق تقاته، أي كما ينبغي لهº إذ هو - سبحانه و تعالى - أهل لأن يُتّقَى، فهو الرب الإله القائم على كل نفس بما كسبت، قال - تعالى -: (ومَا تَكُونُ فِي شَأنٍ, ومَا تَتلُو مِنهُ مِن قُرآنٍ, ولا تَعمَلُونَ مِن عَمَلٍ, إلاّ كُنّا عَلَيكُم شُهُوداً إذ تُفِيضُونَ فِيهِ ومَا يَعزُبُ عَن رّبّكَ مِن مّثقَالِ ذَرّةٍ, فِي الأَرضِ ولا فِي السّمَاءِ ولا أَصغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أَكبَرَ إلاّ فِي كِتَابٍ, مّبِينٍ,)]يونس:61[. وقد علم الله - سبحانه و تعالى - أن عباده لا يطيقون أن يقوموا بحقه وتقواه كما ينبغي له - سبحانه و تعالى -، ففرض عليهم من ذلك ما يستطيعون، فقال - جل وعلا -: (فَاتّقُوا اللّهَ مَا استَطَعتُم وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا)]التغابن:16[فمن غفل عن ذكر الله الواجب المستطاع فهو آثِم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من قوم جلسوا مجلساً ثم قاموا منه ولم يذكروا الله فيه إلا كان هذا المجلس عليهم تِرَةً يوم القيامة) أي حسرة وندامة.. ولا حسرة إلا في ترك واجب. ومن قصر في شكر نعمة عرفها فهو آثم ولو كان في شربة ماء شربها، ولم يحمد الله عليها، قال - تعالى -: (ثُمّ لَتُسأَلُنّ يَومَئِذٍ, عَنِ النّعِيمِ)]التكاثر:8[، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر لما خرجا من بيوتهم بسبب الجوع ثم أضافهم أنصاري فقدم لهم عذقاً من تمر ورطب فأكلوا وقدم لهم ماءاً بارداً فشربوا: (إن هذا من النعيم ولتسألن عنه يوم القيامة). ومن عصى في صغير أو كبير فهو تحت الحساب والمؤاخذة إلا أن يغفر الله ذنبه، إذا عُلم هذا عُلم معنى الذنب الذي يُنسب إلى الأنبياء والرسل فإنه ليس كبيرة بحال، وليس تعمداً لمعصية الله، وإنما قد يكون اختياراً لخلاف الأَولَى، أو انقطاعاً - لحظة - عن الذكر الدائم، أو قعوداً - لحظة -عن الشكر الدائم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنه لَيُغَانُ على قلبي وإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل حتى تتفطّر قدماه، فإذا سئل في ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) فمن عرف حق الله على عباده، وعرف أن حقه يعظم كلما عظمت نعمته على العبد وعلم أن حق الله - سبحانه - على عبده أن يذكره فلا ينساه، ويشكره فلا يكفره، وأن يطيعه فلا يعصاه، وأن يخافه ويتقيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانهº علم العبد عند ذلك ماذا تعني المعصية والذنب؟.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply