لا تكن متوهماً


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تقع فيما تقع فيه، أو يقع عليك ما يقع مما لا يسرك، ولا تهواه، فإذا أنت _ كما يقال _ في حيص بيص..!

 

فهل تحسب أن رحمات الله - عز وجل - قد انقطعت أمدادها عنك في تلك الساعة وذلك الوقت؟

 

إنك متوهمٌ إذاً.. فرحمات الله لا تزال تتدفق بلا حساب عليك وفيما حولك، كما هو العهد بها، فهو الرحمن الرحيم اللطيف الودود، كان ولا يزال وسيظل وسيبقى، لا تتخلى أسماؤه عن تجلياتها، ولا تتخلف صفاته عن عطاءاتها..

 

ولكن العجيب أنك أنت الذي تعرض عنها وتزيغ، وتصد عنها وتنفر، وتتحاشى منها وتفر، وتنساها وتغفل عنها، ثم تتساءل عنها في دهشة وعجب وإنكار؟!

 

ولو أنك فتحت لها كوى قلبك لهبت عليك نسائمها، ووجدت برد اليقين يملأ عليك روحك..

 

أدر مؤشر قلبك قليلاً، وأحكِم وضع بوصلة روحك جيداً، تنبثق في جلاء رحمات محسوسة في قلبك وروحك.. رحمات تتوالى وتتجدد، تجدها حيثما التفت، في كل مكان، ووراء كل شيء، وتحت كل حجر، ومع كل منظر، وعند كل مشهد، ومع كل إشراقة صباح، وعند كل غروب، في الرخاء، وفي الشدة، وفي السراء والضراء على السواء..

 

رحمة واضحة جلية يتجلبب بها كل إنسان أياً كان وضعه، وسنه، ومركزه.. وحين تعيش في بحبوحة هذا الفيض الغامر من الرحمات، فلن تكون بعد اليوم مجرد رقم بلا قيمة، أو عدد بلا معنى، ولن تختنق في عقلك الصغير تساؤلات الشك والحيرة التي يجتهد الشيطان _ وجنوده من الإنس _ في تثويرها عليك كل حين، ذلك لأنك الآن تشهد بوضوح وفي جلاء وروعة باهرة، تشهد تجليات الرحمة تملأ عليك مساحة الكون وما فيه ومن فيه، تتجلى لك حيثما سافرت عيناك، ولله در القائل:

 

كــلّ ما في الكــونِ من برّ وبحــر                   لوح تعليمِ لأرباب النظر

 

وها أنت تحتفي بالأشياء _ كل الأشياء _ لأنها غدت في حسك جميلة حتى تلك التي يراها قاصرو النظر معدومة الجمال، خالية من لطائف الرحمة، ذلك لأنهم نسوا أو أنساهم الشيطان أسماء الله الحسنى التي لا يتخلف عطاؤها في لحظة، بل ولا طرفة عين، فلا تزال أسماؤه - جل شأنه- عاملة كما كانت وستظل كذلك.

 

وهذا ما يغفل عنه أكثر الناس، ومن ثَمّ يهتبل الشيطان هذه الغفلة فيهم، فيشعل الحرائق في البيدر، ويعمل على تثوير آلاف التساؤلات التي تجر شيئاً فشيئاً إلى دوائر الشك _والعياذ بالله _.

 

إنّ إشراقة الأسماء الحسنى وتجلياتها بشكل دائم في قلب المسلم: ترفعه وتزكيه، وتنمي له عمره، وتباركه، ومن خلالها تتسرب إلى قلبه مباهج جديدة تغمر روحه، وتفيض على جوارحه، وهي مباهج لا تشبهها أشياء هذه الدنيا مهما تزخرفت وتزينت، ومن هنا كان التشويق إلى حفظ الأسماء الحسنى وجعلها بمثابة مفتاح من مفاتيح الجنة، ففي الحديث الشريف يخبر الرسول الكريم، أن لله مائة اسم إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة.. أو كما قال..

 

وليس المعنى أن يحفظها عن ظهر قلب، ثم هو لا يزال يتسّخط أقدار الله إذا نزلت به، على غير هواه،

ولكنه الحفظ الذي يزرع في القلب روعته، ويولّد فيه إشراقه، ويظل يغرس فيه أزهار النور حتى تنقدح البصيرة على كمالها وتمامها، فإذا هي ترى ما لم تكن ترى من عجائب آيات الله في الكون وفي الآفاق وفي الأنفس، وقد كانت خافية عليه من قبل ولا تزال خافية على أكثر الخلق وهم لا يعلمون، فما كل من له عينان يُبصر؟! نعم، إنّ على الإنسان أن يجاهد القدر بالقدر، وأن يفر من قدر إلى قدر، ذلك مطلوب بلا شك، ولكن هذا باب، والذي كنا نتحدث عنه باب آخر مكمّل..

 

إنّ أشواك الطريق قد تدمي قدميك مهما اجتهدت في محاولات تجاوزها وتحاشيها، ولكن حين يكون قلبك في مقام الإحسان _ مقام تجليات الأسماء الحسنى _ فإن تلك الجراح بعينها تغدو في حسك ولها نكهتها الخاصة، مع ملاحظة أنك مطالب: بالاستمرار في محاولات التحاشي والتجاوز والتخطي والحذر لتمر بسلام وبلا إصابات..

 

إن يقيناً من نوع خاص، ستنمو بذوره في روحك، وسيتفرع عن هذه البذور فيما بعد أشجار شتى تحمل ما لذ وطاب من مباهج سماوية لا يدرك لذائذها إلاّ العارفون بالله.. قال أحدهم يوماً لتلامذته: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها ولم يذوقوا أحلى ما فيها. فقيل له: وما أحلى ما فيها؟ فقال: معرفة الله، والتلذذ بذكره..

 

فقــراءُ على الدنيــا دخلــوا وكمــا دخلــوا، منهـا خرجــوا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply