كانت تعيش بين أهلها بسعادة وأنس تلتفت إلى هذا فهو أبوها، وإلى تلك فهي أمها، وإلى هذه فهي خالتها وإلى هذه فهي أختها، وكلهم تعيش بينهم عيشة مكرمة معززة فمضت بها السنون، وكانت من الزواج قاب قوسين أو أدنى وذات يوم قال الأب للأم تدركين أن فلانة أوشكت على الزواج ونحن محسنون إليها، ولا ندري هل لنا قدرة على تزويجها أم لا فتهادوا متقدمين إلى القاضي في المحكمة يخبرونه أن هذه البنت وجدوها لقيطة، وأخذوها وأحسنوا إليها وأكرموها بعد أن بلغوا الجهات الأمنية عند وجودها وعمل محضر بذلك، ولكنهم لفرط محبتهم وإحسانهم لتلك الفتاة لم يشعروها لا من قريب ولا من بعيد، وقد كان بعض أقاربهم عندما يزورونهم وخاصة الكبار من النسوة ينظرن إليها نظراً عجيباً، وكانت تستغرب نظراتهن، ولكنها لا تأبه لهذه النظرات وكانوا يتساءلون عن مصيرها في المستقبل بعدما تكبر وهل ستحتجب عن فلان وفلان أم ستكشف لهم، وقد حلت مسألة الرضاعة مسألة الحجاب فأصبحت ابنتهم من الرضاعة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب), وقد أدرك هؤلاء المحسنون لهذه الفتاة أن الله - سبحانه - وبحمده سينقذ بكل عضوٍ, منها عضواً من أعضائهم من النارº لأنهم أنقذوها من هلكة وأخرجوها من الرق وأكرموها وأحسنوا تربيتها، ولما أخبروا القاضي بذلك قال لهم ليس لكم ولاية، الولاية للقاضي الشرعي المختص، ولا بد أن تشعروا البنت أولاً ثم تستخرجوا لها هوية مستقلة ثانياً، ثم بعد ذلك تبدأون بتزويجها، وبدأت العبارات مع الدموع تنهمر بانهمار السيل في منحدره بين الأب الرحيم والأم الرؤوم كيف نخبرها ومن الذي يتولاه ولكنه الإيمان بقضاء الله وقدره الذي يجب أن يزرع في قلوب الناس جميعاً، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: (ولا يجني جان إلا على نفسه), وهذه البنية ذنبها أن أمها فعلت الزنا مع رجل فكانت نطفة، وكانت أمشاجاً وكانت علقة فمضغة وكانت مضغة فعلقة, ثم كانت إنسانة متكونة بقدرة الله وبدأوا يستشعرون أسبوعاً، أسبوعين، ثلاثة أسابيع تمر كلمح البرق من الذي يتولى كبره والخاطب يطرق أبوابهم، وقد أعجب بكل صغيرة وكبيرة ورضا بذلك، وهم لا يريدون أن يفوتوها هذا الخاطب، ولا أن يفوتها هذا الخاطب ولا أن يفوتها قطار الزواج ولكن كيف تكون المسألة وبدأوا بالتدرج وجدوا امرأة من أقاربهم صالحة واستشعروا عظمة المسؤولية، ووكلوا لها مهمة تبليغها، فجاءت هذه المرأة وجعلت تزورهم وتسألها في كل زيارة سؤالاً غريباً هل حقاً هؤلاء أهلك شكلك يختلف عن شكلهم، لونك يختلف عن لونهم، ألا ترين نظرات استغراب من بعض كبيرات السن؟ ألا تدركين أنهم ليسوا أهلك؟ هل تجدين في قلبك أن هؤلاء أهلك؟ وبدأت الأسئلة تتتابع تتابع الأجيال وهي تنزل على هذه البنية المسكينة نزول الصاعقة تماماً، وقد كانوا من قبل أحضروها للقاضي ليخبرها فأبى القاضي ذلك لخطورته على نفسيتها، وخطورته على مشاعرها، وقال لهم: لا بد من التريث، ثم تساءلت تلك المرأة ما سر ذهابك إلى المحكمة؟ ولمن ذهبت؟ وكيف ذهبت؟ وماذا تريدين؟ وبدأوا خطوة وبدأت المرأة تسير في أسئلتها حتى دخلت ذات مساء على أمها من الرضاعة، وقالت: إن فلانة تذكر أنك لست أمي، وأن أبي ليس أبي أحقاً ما تقول، فبكت الأم ولم ترد وأخذت النشيج إلى البكاء وبدأت علامات الاستفهام تتراقص بزيادة واهتمام ثم ذهبت البنية صارخة في اليوم الثاني لتسأل الأب أحقاً ما تقوله هذه المرأة الفلانية فأجابت الدموع بلا ولكن لم يجب الإنسان لهول الموقف، ثم ردت مرة أخرى لأمها من الرضاعة فقالت: ما الخبر؟ فقصت عليها القصص فبكت الدموع تلو الدموع تلو الدموع وانهمرت العبرات وتضامت المرأتان في حنان غريب عجيب وتعاهدتا على البر والإحسان, والإصلاح, وقالت أو تفعلون بي كل هذا الخير وكل هذا الإحسان، وكل هذه التربية وتنفقون عليّ كل هذه الأموال الطائلة وأنا غريبة منكم لست منكم ولستم مني! قالت: يا بنية ربنا يقول: {إنما المؤمنون إخوة}، ورسولنا الكريم - عليه الصلاة والسلام - يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، بل قال - عليه الصلاة والسلام -: (أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى), فأنت سيدتنا, وأنت اليتيمة, وأنت سبب من أسباب الخير، وباب من أبواب السعادة لنا، فاطمئني نعاهد الله، ثم نعاهدك على أن نكون على الوفاء والخير والعز، فقالت: ولمَ تذهبون بي إلى القاضي قالت: لنثبت الحالة بصك شرعي حتى يتمكن القاضي الآخر المختص من تزويجك من الزوج الذي خطبك ورضيته، قالت: وهل يعلم الناس شيئاً من هذا؟ قالت أما كبارهم وخاصتهم فنعم، وقد وثق الأمر توثيقاً شرعياً يضمن ألا تتداخل الأنساب ولا المواريث، قالت: وهل من حقي أن أحمل اسمكم؟ قالت أما هذا فإنه للقاضي والقاضي يقول لا يمكن ذلكº لأن النبي - عليه الصلاة والسلام – يقول: (لعن الله من ادعى لغير مواليه)، وقال: (من دعا إلى غير مخلاف عشيرته فهو إلى مخلاف عشيرته)، فارضي أيتها البنت بما قسم الله وتساكبت العبرات وتقاطرت الزفرات, وتثاقلت الخطى باتجاه المحكمة إلى القاضي لتقول المحكمة كلمتها، إن هذا البنية بنية لقيطة مجهولة، فهل تعي القلوب الظالمة الغاشمة التي تعيش لذة الزنا لحظة ثم يعقبها حسرات مدى الدهر؟ هل تعي هذه الزفرات؟، وهل تعي هذه المصيبة؟، وهل كل فتاة لقيطة ستجد هذه الرعاية، وهذا الكرم، وهذا التسهيل، أم أنها ستكون شؤماً وقبحاً على أمتها ومجتمعها. وتوجه الجميع إلى القاضي، وفي مجلس القاضي بدأ القاضي ينصح البنية ويبين لها قضية الإيمان بالقضاء والقدر, ويبين لها أنه لا ذنب لها فيما جرى ويبين لها أن من أهم ما ينبغي عليها أن تدعو الله لنفسها بالهدى والتقى, ولوالديها بالمغفرة، وأن تكثر من الدعاء لنفسها، وأن تهتم بأبنائها، وأن تبتعد عما حرم الله - عز وجل - حتى لا يتكرر الجرم، وتتكرر الخطيئة وتتكاثف الشرور, وبدأت البنية تسأل القاضي هل من حقي أن أكشف لهؤلاء؟ قال: نعم أنت بنتهم من الرضاعة، وهل من حقي أن أزورهم واعتبرهم أهلا لي؟ قال نعم يقول الله - تعالى -: {هّلً جّزّاءٍ, الإحًسّانٌ إلاَّ الإحًسّانٍ, (60)}، وهل من حقي أن أكرمهم كما أكرموني؟ إن استطعت لذلك طولاً؟ قال: نعم، قالت: وهي من حقي أن ألد عندهم؟ قال نعم، قالت: وهل من حقي أن أعتبرهم أهلاً لي من كل وجه: أزورهم، وأكرمهم، وأشتكي إليهم، وأبث إليهم آلامي وهمومي قال: نعم، قالت الحمد لله على قضائه وقدره، {إنا لله وإنا إليه راجعون}, وخرج الجميع تسبقهم دموعهم, والقاضي يسبِّح ويستغفر ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم, ومن شياطين الإنس والجن, ويسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يحفظ المجتمع من كل سوء ومكروه ومن كل رذيلة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد