بسم الله الرحمن الرحيم
تنفس أبو بشير الصعداء حين بلَّغه سائق السيارة أنهم قد أصبحوا ضمن حدود الدولة المجاورة، فقد تخطوا الحدود ولم ينتبه إليهم حرسه، لأنهم لو انتبهوا إلى ذلك لاعتقلوا أبا بشير لأنه مطلوب أمنياً.
كل الناس تودع حدود بلادها وهم حزانى على أمل العودة القريبة، إلا أبا بشير فقد تهلل وجهه فرحا حينما رأى علم الدولة المجاورة لبلده مرفرفا فوق النقطة الحدودية، لأنه علم أنه أصبح في مأمن على نفسه ودينه وعرضه.
كان بصحبته ابنه الشاب، أما ابنه البكر فقد أبى أن يخرج من البلد فانضم إلى مجموعة المجاهدين، فقال الأب لابنه:
هل تصدق أننا قد أصبحنا في مأمن من القوم الظالمين؟ أم أنهم سيتتبعوننا ولو خارج حدودهم؟ فكان يلتفت كل قليل إلى الوراء للتأكد من عدم تتبع جيش الظالمين لهما.
كانت السيارة تطوي الأرض طيا سريعا، ومع ذلك كان يحس أبو بشير أن الدقائق تمر ساعات، وأن الساعات تمر أياماً لهول ما كان يعانيه من شدائد في بلده الحبيب.
وأخيرا وصلت السيارة إلى باب المطار، ومن حسن حظهما أنه كان في نفس اليوم رحلة إلى المغرب، نعم المغرب، لأن أبا بشير يريد أن يقطع صلته بالمشرق، فهو يعلم أن زبانية الظلمة لهم أذرع تطال المعارضين في الدول المجاورة.
حلقت الطائرة في الجو وأبو بشير لا يزال يلتفت إلى الوراء ظانا أن عميلا سريا يتتبعه. جاءته المضيفة فسألته إن كان يريد شيئا، فأجابها: لا.
مضت على إقامتهما ثلاثة شهور كان فيها أبو بشير يرتب إجراءات إقامته وولده في المغرب العربي، كما كان يبحث عن عمل في نفس الوقت.
رن جرس الهاتف فرفع أبو بشير السماعة فإذا صوت زوجته فبادرها قائلاً: كيف حالك يا أم بشير وكيف حال الأولاد؟ وكيف حال البلد؟
انفجرت أم بشير بالبكاء ولم تستطع أن تقول كلمة واحدة.
ما يبكيك يا أم بشير؟ هل حصل مكروه لبشير؟
لا فبشير بخير والحمد لله.
إذا ما لأمر؟ قولي لي بالله عليك.
هدأت أم بشير من روعها قليلا وقالت إنني لا أتكلم من بلدنا
إذا من أين تتكلمين؟
إنني أتكلم من دولة مجاورة، فلقد اضطررت أن أهرب مع والدتك العجوز وبناتك الأربعة تحت جنح الظلام، والحمد لله أن نجانا من القوم المجرمين.
ولكن لماذا هربتم من البلد وأنتم نساء؟ أنا وابني هربنا عندما علمنا أن آباء وإخوة المجاهدين أصبحوا عرضة للاعتقال، ولكن ما بالكم أنتم النساء؟
لقد أصبحت أمهات المجاهدين وأخواتهم بل وجداتهم عرضة للاعتقال والتعذيب ضغطا من السلطات على المجاهدين لكي يسلموا أنفسهم.
حسبي الله ونعم الوكيل، ولكن قولي لي أين تسكنون؟
قد تستغرب يا أبا بشير إذا قلت لك أن أصدقاءنا عائلة أبا إبراهيم قد استضافونا عندهم وقالوا لنا أنتم المهاجرون ونحن الأنصار!
بكى أبو بشير لما سمع هذه القيلة وهو يحمد الله أن جعل من أمة محمد في القرن العشرين من يتفوه بمثل هذا الكلام العظيم. قال لها على أية حال سآتيكم في أقرب وقت ممكن.
استقل أبو بشير أول طائرة آتية جهة المشرق وهو الذي كان يظن أن لن يراه بعد أن ودعه قبل ثلاثة أشهر، لأنه كان يعد إجراءات الإقامة في المغرب لاستقدامهم. ولكن سبحان الله تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
اُستقبل أبو بشير من قبل أخيه وصديقه أبي إبراهيم استقبالا يليق للأخ مع أخيه، وقد كان يردد أبو إبراهيم لا عليك يا أبا بشير فأنت في بلدك وبين أهلك. كانت هذه الكلمات الأخوية الحانية تنزل بردا وسلاما على قلب أبي بشير وتخفف عليه من غربته.
في اليوم التالي نزل أبو إبراهيم يصحبه أبو بشير إلى السوق لشراء الحاجات الأساسية لتأثيث بيت متواضع لعائلة أبي بشير فأقسم أبو إبراهيم على صديقه ألا يدفع شيئا لأنه سيحاسب البائع عن كل شيء، فاغرورقت عينا أبي بشير بالدموع فهو لم يتعود أن يأخذ مساعدة من أحد، فلقد كان تاجرا موسرا في بلده، ولكنه ترك بيته وأمواله وراءه هربا بدينه وماله وعرضه.
أحس أبو إبراهيم أن أخاه قد وجد في نفسه شيئا فأردف قائلا: هكذا فعل الصحابة الأنصار مع إخوتهم المهاجرين، أم أنك لا تريدني يا أبا بشير أن أقتفي آثارهم؟ وخذ هذا الكيس ولا تفتحه إلا في البيت. ودع الأخوان بعضهما متعانقين على أمل اللقاء في الغد.
في البيت فتح أبو بشير الكيس فإذا فيه مئتا دينار وورقة كتب عليها (أرجو أن تقبل هذا من أخيك إلى أن تجد عملا).
لم ينتظر أبو بشير الصباح بل ذهب لتوه إلى صديقه قائلا: شكر الله لك ياأخي مسعاك، ولكن إذا أردت أن تكمل معروفك مع أخيك فدلني على السوق.
ضحك أبو إبراهيم حتى بدت نواجذه وقال يا أبا بشير: الوقت الآن قارب على العصر فارجع الآن إلى بيتك وتعال غدا.
أبى أبو بشير إلا أن يذهب من ساعته إلى السوق معللا: لا تدري لعل الله يقسم لنا في هذه الساعة المتأخرة من اليوم رزقا.
بالفعل ذهب أبو بشير إلى سوق الخياطين وتعرف على خياط يُدعى أبا زياد
جلس أبو بشير في محل أبي زياد قرابة ساعتين يقص عليه القصص وكيف أنه نجا وأهله بأعجوبة من القوم الظالمين، وبكى أبو بشير مرة ثانية حين سمع أبا زياد يقول: هون عليك يا أخي فأنك في بلدك وبين أهلك، أنتم المهاجرون ونحن الأنصار! ولم يقطع حديثهما إلا أذان المغرب، فقال أبو زياد تعال معي يا أخي لكي ندرك صلاة الجماعة فأنا إمام هذا المسجد القريب منا فتعجب أبو بشير من رجل يجمع بين الإمامة والخياطة، ولكنه سرعان ما تذكر أن الإمام أبا حنيفة كان بزازاً.
بعد صلاة المغرب اتفق الاثنان على اللقاء غدا صباحا. ذهب أبو بشير إلى أهله يحدثهم عن معشر الأنصار في هذا البلد الطيب أهله، وزوجه وبناته يستمعن إليه ويكدن ألا يصدقن.
في اليوم التالي اشترى أبو بشير كل ما يلزم لعمل ورشة خياطة صغيرة في بيته. بدأت الأسرة المكونة من ثمانية أشخاص بالعمل الدؤوب ليل نهار، فالأب يشتري القماش من السوق والأم وبناتها ووحيدها يتعاونون كخلية نحل لخياطة هذه الأقمشة، فيقوم الأب وابنه بنقلها إلى متجر العم أبي إبراهيم الذي يمتلك محلا من أكبر محلات بيع الألبسة الجاهزة في عمان فيشتريها منهم وهو يقول: ربح البيع أبا بشير.
دس أبو إبراهيم في جيب أبي بشير كيسا كما كان يفعل كل شهر، فأخرج أبو بشير الكيس ومعه كيس آخر وقال: يا أبا إبراهيم لقد وفقنا الله في عملنا ورزقنا رزقا حلالا طيبا مباركا، فخذ هذين الكيسين مني وأعطهما لفقير من فقراء الأنصار فقد حان وقت السداد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد