اقتحام العقبة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

ارتدت معطفها على عجل، أحكمت غلق باب بيتها الصغير وهي في طريقها لشراء المدفأة التي طالما حلمت بها، اليوم اكتمل المبلغ المطلوب كثمن لها.

 

تلك المدفأة ستطفئ لسعات ليالي الشتاء الباردة ولوعات قلبها الحزين الذي يرتجف كلما ارتجف ابن من أبنائها في فراشه، باكتمال مبلغ المال ذللت العقبة التي حالت دونها ودون المدفأة، ادخرت كثيرا واختصرت جميع المطالب التي بدت ثانوية لها أمام ضرورة وجود مدفأة تلم شمل الأسرة حولها في هذا الفصل الثلجي العاصف، وصلت قبل أن يفتح بائع الأجهزة الكهربائية متجره بدقائق، وقفت أمام الواجهة الزجاجية تنظر نحو المدفأة التي طالما ترددت على هذا المتجر لأجلها، كل مرة كانت تمر وتسأل، لعل ثمنها قد نقص قليلا، إلى أن حصلت في موسم التخفيضات على أقل سعر لها، تبسمت عندما رأت البائع يقترب من متجره، ما إن فتح بابه حتى كانت أول زبونة تدخل إليه، توجهت مباشرة نحوها وأشارت بإصبعها إليها: أريد هذه، قالت وهي تكاد لا تصدق أن اللحظة حانت للحصول على مدفأتها، أخيرا سترتاح من عناء موقد الفحم الذي تعده وتشعله كل يوم وكل ليلة، تبسم البائع حين لمح لهفتها على الشراء، حاول أن يعرض عليها أجهزة أخرى إلا أنها طلبت منه أن يجرب هذه بالذات كي تطمئن إلى كفاءة عملها بأسرع وقت فهي تتطلع للحظة التي يشع فيها دفؤها حول أبنائها الصغار، أوصل البائع المحول في الكهرباء ثم أدار المفتاح فإذا بالنور والدفء الذي تمنت يشع حقيقة أمامها فوقفت مشدوهة في تبسم وفرح حتى تنبهت إلى صوت خافت ويد تربت عليها من الخلف ما أن استدارت نحو الصوت حتى أدركت أن المرأة تتسول منها.

 

نظرت إليها ونظرت للطفل الذي يكاد لا يبين من هزاله بين ذراعيها، بحركة لا شعورية أشاحت بوجهها عن السائلة، استحثت البائع أن يعجل بتجهيز المدفأة لها، لن تكون هناك عقبة أخرى هكذا تمتمت بينها وبين نفسها، عادت المرأة تربت على كتفها من جديد، فتجاهلتها بالابتعاد عنها قليلا وأصداؤها الداخلية تردد «لن تكون هناك عقبة أخرى بيني وبين حصولي على المدفأة\"اقتربت السائلة منها مرة أخرى في استجداء واضح، فخطر لها أن تفاصل البائع في ثمن المدفأة لعلها تحصل على تخفيض آخر ولو بسيط تتصدق به على تلك المرأة، إلا أن البائع أصر على الثمن المطلوب، همست السائلة بكلمات غير مفهومة فقاطعتها بلهجة حاسمة: آسفة، لا أملك لك شيئا. انكسرت على الفور نظرات المرأة وتساقطت من عينيها دموع أيقظت الطفل الصغير بين ذراعيها، فأخذ يتململ في بكائه رويدا رويدا.

 

استدارت نحو البائع في غضب قائلة: لم لا تنتهي من تجهيز المدفأة، أنت بطيء جدا في عملك. اعتذر لها واخذ يسرع في تجهيزها، فاستوقفته فجأة وقد علا بكاء الطفل بمجرد أن واجه وأمه موجة الهواء البارد التي اندفعت إليهما وهما يهمان بالخروج من باب المتجر الدافئ، قالت للبائع بلهجة قاطعة: لا مزيد من التخفيض؟.. فهز رأسه نافيا: لا مزيد يا سيدتي. شعرت بغضب وصراع شديد بين رغبة في الحصول، ورغبة في العطاء، أي عقبة هذه التي لم تكن في حسبانها طوال الأشهر الماضية التي قضتها في ادخار وتوفير ثمن المدفأة؟ أدخلت يدها في الحقيبة وأخرجت النقود ومدت يدها للبائع بكامل المبلغ، فامسك البائع بطرف النقود من الجهة الأخرى إلا أنها ظلت ممسكة بها من الطرف الآخر، نظر البائع إليها متعجبا ولكنها لم تجبه، ترددت للحظات ثم سحبت يدها بالنقود والتفتت خلفها تبحث بنظرها عن المرأة، ركضت خارج المتجر للحاق بها قبل أن تغيب ويغيب بكاء الطفل ويغيب عن عينيها حب العطاء وشجاعة الاقتحام بالرحمة.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply