بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فمن القصص التي قصها الله علينا في كتابه العظيم للاعتبار والاتعاظ قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون عدو الله - تعالى -، فرعون الذي كان رمزًا من رموز الظلم والطغيان، وعلم من أعلام الجبروت والاستبداد، والقصة حكتها سورة الأعراف ويونس وطه والشعراء والنمل والقصص والنازعات وغيرها، تارة بإسهاب وتفصيل وأخرى باختصار واقتصاد، وهذه بعض الوقفات مع هذه القصة العظيمة لأخذ العظة والعبرة.
نماذج من طغيان فرعون:
إن أعظم شيء طغا فيه فرعون اعتداؤه على حق الربوبية، الذي هو لله - تعالى -فادعى فرعون الربوبية من دون الله - تعالى -: "فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبٌّكُمُ الأَعلَى" (النازعات: 23-24)
"وَقَالَ فِرعَونُ يَا أَيٌّهَا المَلأُ مَا عَلِمتُ لَكُم مِّن إِلَهٍ, غَيرِي" (القصص: 38)
"قَالَ لَئِنِ اتَّخَذتَ إِلَهاً غَيرِي لأَجعَلَنَّكَ مِنَ المَسجُونِينَ" (الشعراء: 29)
وكان من لوازم إدعائه الربوبية أن أنكر وجود الخالق - جل وعلا - وهذا الفعل منه علوًا واستكبارًا لا حقيقة ويقينًا لأن النفوس مفطورة على وجود الخالق "قَالَ فِرعَونُ وَمَا رَبٌّ العَالَمِينَ" (الشعراء: 23)
(وَقَالَ فِرعَونُ يَا هَامَانُ ابنِ لِي صَرحاً لَّعَلِّي أَبلُغُ الأَسبَابَ * أَسبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنٌّهُ كَاذِباً) (غافر: 36-37)
تكذيبه لموسى واستخفافه بما جاء به من عند الله بل وإذاؤه له ومحاولة قتله.
قيامه باستضعاف بني إسرائيل يذبح أبناءهم و يستحي نساءهم ـ أي يتركهم أحياء (إِنَّ فِرعَونَ عَلا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعاً يَستَضعِفُ طَائِفَةً مِّنهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم وَيَستَحيِي نِسَاءَهُم إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفسِدِينَ) (القصص: 4).
قال ابن كثير ـ - رحمه الله تعالى -ـ: بشر إبراهيم بأن قتل ملك مصر سيكون على يدي أحد من صلبه، وكان القبط يتحدثون بذلك فاحترز فرعون فأمر بقتل ذكور بني إسرائيل. فلما أظهر الله موسى على السحرة وآمنوا لم يزد ذلك فرعون إلا تكذيبًا واستكبارًا مع أنه جعل اللجوء إلى السحرة فيصلا وفرقًا بين الحق والباطل، فلما ظهر الحق أباه وأنكره مع يقينه في قرارة نفسه صدق موسى - عليه السلام - وأنه نبي مرسل من عند الله - تعالى -: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُم ظُلماً وَعُلُواًّ) (النمل: 14)
ولم يكتف بالتكذيب والكفر بل حمل الناس على ذلك بالقوة، وتوعد المؤمنين من السحرة بالعذاب والنكال، وكانت حجته في عدم الإيمان والتصديق وفي إيقاع العذاب بالسحرة أن السحرة لم يأخذوا إذنًا منه حينما أرادوا الإيمان، وهكذا كل طاغوت من طواغيت الكفر والضلال يستمسك بأدنى شيء ولو لم يكن في ذلك حجة، ويجعل ذلك حجة لتسويغ كفره وعدم إيمانه (قَالَ فِرعَونُ آمَنتُم بِهِ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّ هَذَا لَمَكرٌ مَّكَرتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخرِجُوا مِنهَا أَهلَهَا فَسَوفَ تَعلَمُونَ) (الأعراف: 123)
(قَالَ آمَنتُم لَهُ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلافٍ, وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخلِ وَلَتَعلَمُنَّ أَيٌّنَا أَشَدٌّ عَذَاباً وَأَبقَى) (طه: 71).
قال ابن عباس: وكان أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون.
بعض الآيات والمعجزات في إظهار موسى على فرعون رغم احتياطه:
إذا أراد الله شيئًا قال له كن فيكون، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ويظهر ذلك جليًا في هذه القصة فإن فرعون لما احتاط بقتل بني إسرائيل وقد كتب الله أن إهلاكه على يد رجل ممن كان يحذرهم ويخافهم سهل الله أسباب ذلك (وَنُرِيَ فِرعَونَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُم مَّا كَانُوا يَحذَرُونَ) (القصص: 6).
قال ابن كثير: لما أكثر فرعون من قتل بني إسرائيل فيعملون بدلهم الأعمال الشاقة فكلموا فرعون في ذلك فأمر بقتل الأولاد عامًا وإبقائهم عامًا، فولد هارون في السنة التي لا يقتل فيها الولدان وولد موسى في السنة التي يقتل فيها الولدان.
من حكمة الله - تعالى -أن أعراض الحمل لم تظهر على أم موسى لما حملت به، قال ابن كثير: كان النساء العاملات عند فرعون يدورون على البيوت فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها فإذا كان وقت ولادتها لا يقبلها إلا نساء القبط فإن ولدت المرأة جارية تركتها وذهبن، وإن ولدت غلامًا، دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة فقتلوه ومضوا قبحهم الله، فلما حملت أم موسى - عليها السلام - لم تظهر عليها مخايل الحمل [14].
لما ولدته أمه خافت أن يكشف أمرها فيقتل ابنها فقذف الله في روعها أن تجعله في تابوت وتلقيه في النهر (وَأَوحَينَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَن أَرضِعِيهِ فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحزَنِي إِنَّا رَادٌّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ) (القصص: 7).
قال ابن كثير: كانت دارها على حافة النيل فاتخذت تابوتًا ومهدت فيه مهدًا وجعلت ترضع ولدها فإذا جاءها أحد وضعت موسى في ذلك التابوت وذات يوم نسيت أن تربط التابوت فانفرط وسار في النهر إلى دار فرعون [16].
ومن أعظم الآيات: أن يتربى نبي الله موسى - عليه الصلاة والسلام - في بيت عدو الله وعدوه فرعون، حتى يشب ويترعرع ويكبر ثم يكون هلاكه على يديه.
جوانب أخرى فيها آيات ومعجزات:
أعطى الله - تعالى -موسى - عليه الصلاة والسلام - قوة جسدية هائلة يبين ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما قال: " إن موسى - عليه السلام - لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون قال: فلما فرغوا أعادوا الصخر على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال فإذا هو بامرأتين تذودان قال ما خطبكما فحدثتاه فأتى الحجر فرفعه ثم لم يستق إلا ذنوبًا واحدًا حتى رويت الغنم " [17].
التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء والتمحيص:
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: " سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر وكان حافيًا فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة " [18].
ظهور الحق على الباطل:
من رحمة الله - تعالى -بعباده أنه يظهر الحق على الباطل مهما طال ظلام الباطل وأبطأ نور الحق، لكن العاقبة للمتقين، وفي قصة موسى مع فرعون آية عظيمة في ظهور الحق علانية ففرعون يأمر بالسحرة من كل جهة أن يحضروا: (قَالُوا أَرجِه وَأَخَاهُ وَأَرسِل فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ, عَلِيمٍ,)(19)
. ويعد فرعون السحرة بالأجر العظيم، والقرب منه إذا هم غلبوا موسى (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرعَونَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجراً إِن كُنَّا نَحنُ الغَالِبِينَ * قَالَ نَعَم وَإِنَّكُم إِذاً لَّمِنَ المُقَرَّبِينَ) (20) ويكتب الله - عز وجل - أن تكون المقارعة علانية أمام الناس لئلا يمكن إخفاء الحقيقة التي ستظهر وحتى لا يحجب عن الناس صدق موسى: (قَالَ مَوعِدُكُم يَومُ الزِّينَةِ وَأَن يُحشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (21) و ذكرهم موسى بالله العظيم لكنهم لم يذكروا: (قَالَ لَهُم مٌّوسَى وَيلَكُم لاَ تَفتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسحِتَكُم بِعَذَابٍ, وَقَد خَابَ مَنِ افتَرَى) (22) فلما لم يوقنوا طلب منهم موسى أن يلقوا أولا حتى يرى الناس صنيعهم ثم يظهر موسى آيات الله التي ليس بحسر كما يزعمون (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحنُ المُلقِينَ * قَالَ أَلقُوا فَلَمَّا أَلقَوا سَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ وَاستَرهَبُوَهُم وَجَاءُوا بِسِحرٍ, عَظِيمٍ,) (23) حتى إنهم أيقنوا بأنهم غلبوا موسى (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرعَونَ إِنَّا لَنَحنُ الغَالِبُونَ) (24) ولكن يأبى الله - عز وجل - إلا أن يعلوا الحق على الباطل (وَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أَلقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلقَفُ مَا يَأفِكُونَ * فَوَقَعَ الحَقٌّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ) (25)..
نماذج مؤمنة:
1- السحرة الذين أحضرهم فرعون لما ظهر لهم الحق ورأوا أن ما جاء به موسى ليس سحرًا بادروا إلى الإيمان بالله (وَأُلقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (26) وتوعدهم فرعون بالعذاب والنكال، فقالوا (قَالُوا لَن نٌّؤثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقضِ مَا أَنتَ قَاضٍ, إِنَّمَا تَقضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدٌّنيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكرَهتَنَا عَلَيهِ مِنَ السِّحرِ وَاللَّهُ خَيرٌ وَأَبقَى) (27).
(قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَن آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتنَا رَبَّنَا أَفرِغ عَلَينَا صَبراً وَتَوَفَّنَا مُسلِمِينَ) (28)
قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة [29].
2- امرأة فرعون لم يضرها كفر فرعون (قَالَت رَبِّ ابنِ لِي عِندَكَ بَيتاً فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القَومِ الظَّالِمِينَ) (30).
قال ابن كثير: حينما كان الفريقان مجتمعين كانت امرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه فمن رأها ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون. قال قتادة: " كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها ليعلموا أن الله - تعالى -حكم عدل لا يؤاخذ أحدًا إلا بذنبه " [31].
شكر الله - تعالى - أن نجى موسى والمؤمنين وأهلك فرعون والكافرين:
1- عن ابن عباس قال: " لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء، فسألهم فقالوا هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون، فقال: نحن أولى بموسى فصوموه " [32].
2- وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: " يكفر السنة الماضية " [33].
3- وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع " [34].
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
_____________________
(1) النازعات 22- 24.
(2) القصص 38.
(3) الشعراء 29.
(4) الشعراء 23.
(5) غافر 35-36.
(6) القصص 4.
(7) تفسير ابن كثير3/380.
(8) النمل 14.
(9) الأعراف 123ـ124.
(10) طه 71.
(11) تفسير ابن كثير 2/538.
(12) القصص 6.
(13) تفسير ابن كثير 3/380.
(14) تفسير ابن كثير 3/380.
(15) القصص.
(16) تفسير ابن كثير 3/380.
(17) أخرجه ابن شيبة وصححه ابن كثير 3/383.
(18) تفسير ابن كثير 3/ 384.
(19) الأعراف111/ 112.
(20) الشعراء 41، 42.
(21) طه 95.
(22) طه 61.
(23) الأعراف 114، 115، 116.
(24) الشعراء 44.
(25) الأعراف 117، 118، 119.
(26) الأعراف 120، 121، 122.
(27) طه 72، 73.
(28) الأعراف 125- 126.
(29) تفسير ابن كثير 2/ 238.
(30) التحريم 11.
(31) تفسير ابن كثير 4/ 393.
(32) أخرجه البخاري 4/ 214، ومسلم 11130.
(33) أخرجه مسلم 1162.
(34) أخرجه مسلم 1134.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد