بسم الله الرحمن الرحيم
ولدت على شفير المأساة..
وشمّت الحياة برائحة الحزن والمعاناة..
هي طفلة عاشرها الألم حتى ملّها..
ولاكها القهر حتى مجّها..
كانت تلهو مع الصبيان..
تغني وتغرد، تسرح وتمرح، وهي لا تعلم عن عمق مأساتها شيئاً..
لا تدري عن سر النظرات المشفقة التي تلاحقها..!!
أو التنهدات العميقة التي تحيط بها..!!
بعضهم إذا رآها شمت بها..
والبعض الآخر يغمض عينيه وينصرف..
والبعض الثالث يشمئز ويحمد ربه على النعمة والعافية..
والبعض الرابع.. يبكي لحالها.. ولمآلها..
وإني – ولعمر الله – من البعض الأخير..
كبرت سارة..
وكبر معها الهم والمعاناة..
بكيتُ لحالها والله، وتنهدت ثم استرجعت وحوقلت..
سارة.. كُتب على جبينها ثلاثة أحرف.. ح.. ز.. ن
ونُحت على صدرها.. أ..ل.. م
فكرت بأن لا أطلعكم على مأساتها..
كي لا أُلهب قلوبكم، أو أُعكر صفو مزاجكم..
فيكفي ما أصابني حين سمعت قصتها..
فلك الله يا سارة..
فهو الذي ابتلاك.. وهو القادر على كشف ما ألم بك..
لقد أنفق والدها أموالاً طائلة في سبيل علاجها..
ولكن طبيب الجلدية أخبره بأن البثور الحمراء، والممتدة من أنفها إلى منتصف جبينها لن تزول أبداً..
وأخبره كذلك..
بأن إجراء عملية تجميلية غير ممكن، إذ أن بها مخاطر عديدة، ولا يَأمن عاقبتها..
سلّم الجميع لأمر الله..
وسلمت سارة أيضاً، فهي الفتاة العابدة الصالحة..
صبرت على قضاء الله وقدره..
كانت سارة تنظر في المرآة إلى هذه البثور التي حولت بشرتها الصافية إلى لون داكن غريبº فتتألم وينكسر خاطرها..
وفي أحد الأيام، عادت كسيرة من المدرسة..
والهم والغم يعلو محياها..
اتجهت إلى غرفة نومها خلسة، ولم تقبِّل جبين والدتها كالعادة..
أحست الأم بشيء غريب حدث لها..
طرقت الباب واقتربت منها، فسمعتها تبكي، ولها نشيج يكاد يقطع نياط القلوب..!!
فزعت الأم، واحتضنتها، واستخبرتها عن سر بكائها..؟!
فقالت: زميلتي أمل.. ثم انخرطت في البكاء مرة ثانية، إلا أنها استجمعت قواها وقالت.. إن زميلتي أمل قد جعلتني أضحوكة بين الطالبات اليوم..
لقد استهزأت بي.. وبالبثور التي تعلو هامتي..
لقد ضحكت جميع الطالبات علي، حتى الحيطان والنوافذ، بل والدفاتر والأوراق..
ثم كفكفت دمعاتها وقالت: أماه.. إني أحس بأن ذرات الهواء تعيبني، وتضحك علي..
وأظن بأن الشمس تهرب من ملاقاتي عند المغيب..
بل وأشعر بأن ظلي الذي يلازمني، والذي أعتبره أعز أصدقائي، أشعر بأنه يشمت بشكلي ومنظري..
أماه.. لقد سئمت هذه الحياة..
لكم تمنيت أني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً..
ولم يقطع حديثها إلا دخول أختها حياة، والتي كانت تسترق السمع إليهما..
فحاولت تهدئتها وتذكيرها بالله..
إلا أن ضعف النساء وقلة حيلتهن كان له النصيب الأعظم..
انخرط الجميع في البكاء، وكأنهن في مأتم..
في مشهد يستدر الدمع..
وتوالت الأيام والأيام..
وأصبحت سارة فتاة يافعة، تدبر أمر البيت، وتوجه إخوتها، وتصلح بيتها..
لقد أصبحت في سن الزواج، فيا ترى من سيتزوجها، ومن سيرضى بها؟
ولكن الأرزاق بيد الله..
وبالفعل..!!
طرق بابهم شاب جميل.. ووسيم، كان ذا خلق ودين..
ولما علمت سارة بقدومه خاطباً، اعتلى وجهها البئيس حمرة خجلى، وانكسار وحياء..
لبست أحلى ملابسها..
وتزينت وتجملت..
ويا ليتها لم تفعل..!!
فالخاطب لم يكن يطلبها، بل كان يقصد أختها الصغيرة.. حياة..
عندما أخبروها بذلك، حاولت أن تتصابر، أو أن تتظاهر بالتجلد، ولكن الموقف كان أشد من ذلك كله..
يا لله..
ما أقسى هذه الحياة..
ما أشد أساها، وما أكبر فتنتها وبلاءها..
هذه الحياة.. لا ترحم مسكينة أو أرملة، ولا تعطف على بائسة أو قانطة..
هذه الحياة.. دار حزن وألم وحسرة..
فلك الله يا سارة..
فكم من مرة نظرتِ في المرآة فبكيتِ،
وكم مرة سمعت لمزاً وغمزاً فانكسرت..
سارة.. ترى الفتيات من حولها فرحات، فهذه مخطوبة، وهذه تستعد لحفل زفافها، وتلك أم لطفلين..
أما هي، فحبيسة غرفتها، وأسيرة أنّتها..
هي لا تتمنى الزواج..
ولا تتمنى العيش الرغيد الهني..
إنها تأمل بألا ينظر إليها الناس بشماتة أو بشفقة..
إنها ترجو بأن تحادث الناس بحرية وطلاقة..
ولكن أنى لها ذلك، وهذه البثور تعلو محياها..
وتمضي السنون والسنون..
والمعاناة ألِفت سارة، وكذا ألفتها سارة..
إذ أن بينهما عِشرة أربعين سنة..
أربعون سنة، والألم لم يفارق وجنتيها..
فاتها قطار الزوجية، وركب الحياة الهنية..
فيا رب.. رحماك رحماك بهــا
رحماك بدمعاتها الحرى
رحماك بأناتها وتنهداتها
سارة.. انبثق في ظلام حياتها نور خافتº فقد أُخبرت أن داءها يمكن أن يُعالج..
هو مجرد خيط أمل رفيع، وذرة رجاء..
فأسألكم أن ترفعوا أكف الضراعة في ظلام الليل البهيم، وفي ثلث الليل الأخير، وفي وقت السحر، وتسألوا الله بأن يرأف بحالها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد