ليلة سغوب


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

آه ، ما أطول ليل الانتظار ، هل من نوم يقصّره ،

ألا من يبيع نوماً                                        
لمن قط لا ينام

ما أشبه الليلة بالبارحة ، وما أشد افتراقهما أيضاً º بالأمس كاد يقتلني الجوع ، لا شيء في المسجد الذي أسكن في مكتبته إلاّ الماء ، تضوّرت البارحة وتقلّبت ، وهجرني النوم ، وكانت الريح الباردة تصنع صنيعها في عظامي ، وهاأناذا اليوم يهجرني النوم أيضاً ، لكن لأمر آخر ، اليوم يفتّ عقلي القلق ، لم أعهد على شيخي كذباً ، حاشاه ، هو الذي ملأ سمع الدنيا بعلمه وأمانته وصدقه ، لكن ما يدريني لعل صاحبة الرسالة هي التي لا تصدق ، لا ، لا ، يعرف الكاذبون بسيماهم .


عرفت منظر ليالي الإبدار الرائع البارحة ، حين أخرجني الجوع من تدثري ، وتسلّقت إلى سطح المكتبة لعلي ألمح طعاماً أو أهتدي إلى ما يسد جوعتي ، وقفت على السقف ، وكان هذا المنظر الرائع ، وهذا البدر العجيب ، لا عجب أن يحلم السمّار بليالي الإبدار ، أما أنا فكدت من الجوع أن أنهار ، وقفتُ والريح تعوي عواء الذئاب الجائعة ، وأسناني تتقضقض ، تلفّتّ أستبقي الحياة ، دعوت ودعوت ، رأيت خلف المسجد بركة ماء تترامى عليها الطحالب ، ويصطخب فيها نقيق الضفادع ، ويخرج منها جدول نحيل ، ينطلق متعرجاً في بستان ملتف الأغصان ، يكاد الجدول أن يختفي تحت أوراق الشجيرات ، لولا القمر الذي يفضحه بلمعانه ، ولولا النجوم التي تسرج فيه كأنها عرائس من نور تتحمم .


وفي آخر البستان لاح لي منزل مفتوح بابه ، قفزت إلى جهة البركة ، أنصتت الضفادع تتصمخ ، أفزع ارتطامي بالأرض كل شيء حول البركة ، سمعت كل شيء يهرب ، حتى أسماك البركة الصغيرة شققت بهلعها بساط الطحالب ، أما أنا فهرعت أبتغي المنزل ، لا ألوي على شيء ، وحين اقتربت من الباب انفهق لي المنزل عن رائحة شهيّة ، وجدت نفسي في المطبخ ، كل شيء ساكن ، فتحت القدر مصدر الرائحة ، ارتفعت كبدي فوق أضلاعي خوفاً ، رقصت معدتي طرباً ، وجرى لعابي أنهاراً .
لكنّ نداءً من أعماقي هتف بي : أنت طالب علم ، أنت من القدوات ، كان النبي e يمر على أبياته ثلاثة أهلّة لا توقد فيها النار ، استجبت لنداء ضميري ، وخرجت أخط بأقدامي قصّة جوعي ، عدت إلى المكتبة ، ربطت حجراً على بطني وانطرحت .


تنفس الصبح ، جلجل أذان الفجر من المآذن ، ملأ القرية صداه ، هرعت إلى المسجد ، أنصتّ لشيخنا وهو يقرأ ] ولنبلونّكم بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين [ كأنه يقصدني ، قلت في نفسي : اللهم اجعلني من الصابرين .
وفي درس الفجر تحدّث الشيخ عن أحوال الصحابة وتقلبهم بين الجوع ، والخوف واليسر والعسر ، وأنا أتضور جوعاً ، أنهى الشيخ درسه بسرعة ، لكنّه كان طويلاً طويلاً بالنسبة لي ، خرج المصلون ، لم يبق إلاّي والشيخ ، حدثت نفسي بمصارحته عن خبر جوعي البارحة . . .
سبقتني إليه امرأة ، أقبلت إليه تتعثر في ثيابها ، وتتلفّت كالخائفة ، لا يرى منها إلاّ سواد جلبابها ، ألقت قصاصة ورق في ثوب الشيخ وهرعت خارجة . التقط الشيخ القصاصة ، بسطها ، حملق فيها ، وأنا أتحيّن الفرصة لأخبره بحالي . انشق وجه الشيخ عن ابتسامة جميلة ، نظر إلي بعينيه المشفقتين وقال :


-
يا أحمد اقترب ، أُدنه .
-
لبيك يا شيخنا .
-
هل فكّرت في الزواج ؟
-
فكّرت في الطعام ، أثابك الله .


-
أعلم أنّك جائع ، لهذا أنهيت الدرس بسرعة ، هلم معي إلى المنزل ، فقد أهدي إلينا تمر كثير ستأخذ نصيبك منه . . . وأخذ بيدي وأكمل في الطريق :


-
هذه المرأة يا أحمد كتبت أنّ زوجها هو الذي مات منذ أشهر ، وورثت منه بيتاً ومالاً ، وأنها تحفظ القرآن وبعض السنّة ، وتطلب زوجاً طالب علم لتستفيد منه ، وليسترها . هل تريد الزواج يا أحمد ، أنا لا أريدها لغيرك .


-
أنا يا شيخ لا أجد ما آكله ، فأنى لي بمهر مثلها ؟
-
لا تقلق ، إن كان لك فيها نصيب ييسّر الله كل شيء .


وأخذتُ التمر ، وأكلت وشبعت ، ولله الحمد ، استبدلت بألم الجوع قلق الزواج لم يبارحني القلق منذ ذلك الحين ، الشيخ يبحث عمّن يعينني على المهر . وأنا لا أكاد أصدّق ، كم أتمنى أن تكون هذه المرأة لي ، نادر مثلها . ترى هل رآها القمر ، كيف هي ؟

يا ليل هيّــــجت أشـواقاً أداريها                     
فسل بها الـــبدر إن البدر يدريها


رأى حقيـــقة هذا الحسن غامضة
                
فراح يظــــهرهـا للنـاس تشـبيـها


في صورة من جمال البدر تنظرها
                 
وتنظر البـــدر يبدو صورة فيــها


يأتــــــي بملء سماء من محاسنه
               
لمهجـــــتـي وأراه ليـس يكفيـــها


وراحة الخلد تأتي في أشعته تبغي
              
على الأرض من في الأرض يبغيها


وكم رسائل تلــــقيها الســـــماء به
               
للعــــــــاشقين فيأتيــهم ويلقيــــها

* * * * * *

يقول للعاشق المهجور مبتسما                   
خذني خيالاً أتـى ممن تسمّيـها


وللذي أبعدته في مـــطارحـها
                      
يد النوى أنا من عينيـك أدنيهـا


وللذي مضّه يأس الهوى فسلا
                     
انـظـر إليّ ولا تتـرك تمنيـها

* * * * * * *

أما أنا فأتاني البدر مزدهيــــاً                        
وقال جئت بمعنى من معانيها

ترى ما هذا المعنى أيها القمر ، أمن تمسكها بكتاب الله وسنّة رسوله ، أم من تعففها ، أم من حرصها على العلم ، أم من تأبيها ؟ هل تدري أنني أنا الذي صارحني الشيخ بكتابها ، هل رأتني وأنا أتضور جوعا حين ألقت كتابها ، واخجلتاه ، هل سوف ترضى أن تتزوج صعلوكاً مثلي ؟ إنني أشمخ بخيالي لأمر لا أروم له منالا ، هل ستخبرها بمساررتي لك أيها القمر ، لا ، لا أيها القمر ، استودعتك سرّي فلا تبحه .
انبلج الصبح البهي ، وأعلن الشيخ بعد صلاة الفجر عن عرسي ، خررت ساجداً ، هنأني المصلون ، انقضى يوم العرس سريعاً ، وحينما دخلت منزلها إذا هو المزل الذي كدت أن آكل من طعامه ، وذات يوم أخبرتها بقصّتي ، فضحكت ضحكة جميلة ، ثم اغرورقت عيناها وسمعتها تتمتم : ] إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا [ ثم هرعت إلى حيث تظن أني لا أراها فتبعتها فوجدتها ساجدة ، فسجدتُ مثلها أن جمعني الله بها .

 

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply