التوبة في البئة الفاسدة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

السؤال:

أريد التقرب من الله، وأن أصبح متدينة، لم أكن محجبة في الماضي حتى أصبت بمرض وشفاني الله بقدرته، بعدها تحجبت عن قناعة وراحة نفسية، وشكرت رب العالمين، وأريد المزيد من الهداية، لكن لدي مجتمع لا يساعد (هو مجتمع مسلم يصلي ويصوم ويتصدق)، ولكن من نواحٍ, أخرى النميمة شائعة، تتعطر المرأة بعطور فواحة، تصافح الرجال، الغرور في كل عائلة على الأخرى (الكبر والتعالي)، الخروج مع السائق من غير محرم، حفلات الزواج الضخمة المصحوبة بالطرب والموسيقى، فإما أن أجاريهم فيما يفعلون وإلا أقطع رحمي؟ أنا في حيرة من أمري، دلوني على الطريق الصواب.

 

الجواب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أحمد الله - تعالى -أن مَنَّ عليك بالهداية والعودة إلى رحابه الكريم، إلى السعادة الحقيقية التي لا تشترى بحال، ولا تنال بجاه. إلى الراحة التامة التي يلهث للوصول إليها هذا العالم البائس المنهك بالضلالات.

ثم أود أن أنبه إلى أمر مهم جداً أعتبرك أنت أحد النماذج الواقعية عليه، وهو أن ما يصيب المسلم من الابتلاء في حياته خير له، فمهما بلغت شدة المصيبة ووقعها في نفسه فلله فيها رحمات ربما لا يدركها المصاب، ولكن سوف يجني عاقبتها حلوة نضرة في الدنيا والآخرة إذا صبر.

فها أنت قد ابتلاك الله بالمرض، وعانيت ألمه وقاسيت شدته، ولكنه كان مفتاحاً لقلبك لتدخله أنوار الإيمان والهداية، فالحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وسراً وجهراً.

 

أختي الكريمة:

لا شك أن البيئة التي يعيش الإنسان فيها لها أثر كبير في تثبيته وتقوية إيمانهº ولكن هذا لا يعني أن يلغي قدراته الذاتية على المقاومة والإصرار والتمسك بمبادئه ومسلماته!!

لقد حفظ لنا التاريخ نماذج مشرقة للثبات على الإيمان رغم العنت والمشقة وقلة المعين، منها ما قصه الله علينا في كتابه العزيز في سورة التحريم: \"ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين\" [التحريم: 11].

امرأة فرعون هي آسية رضي الله عنها- عاشت في كنف ملك مصر، ولك أن تتخيلي عيشة امرأة في بيت الملك كيف ستكون؟! لا شك أنها ستكون مليئة بالمتع، تطلب فيحقق، وتأمر فتطاع، لكنها استعلت على هذه المتع الدنيوية، وشخصت ببصرها إلى الملكوت الحقيقي إلى الجنة، بل واعتبرت هذه المعيشة التي تتمناها أغلب النساء شراً ودفعاً وبلاء تستعيذ بالله منه وتطلب منه النجاة!! ولم يرهبها أيضاً بطش فرعون وتسلطه وجبروته وطغيانه، ولم تستجب لضغوط بئتها ومجتمعها، بل وقفت وحدها في هذا الزخم الضال ورفعت رأسها إلى السماء قائلة (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة).

فعلاً هي نموذج عالٍ, للتجرد لله - تعالى -، والتخلص من المؤثرات والأواصر، والتغلب على كل المعوقات والمغريات، ولذلك استحقت أن يخلد ذكرها في هذا الكتاب العزيز، واستحقت وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - وثناءه عليها حين قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون وفاطمة).

ما أحوجنا إلى مثل هذا النموذج الراقي!!

إذن أختي الكريمة ليس معنى فقد البيئة المعينة النهاية، بل بداية طريق مليء بالصبر والمصابرة والمقاومة وتحقيق الذات، وأنت ولله الحمد- بالرغم من كل ما ذكرتيه من انحرافات في مجتمعك إلا أنه (مجتمع مسلم يصلي ويصوم ويتصدق) كما أشرت في معرض كلامك، وهذا جانب إيجابي يمكن أن يوفر عليك عناء كبيرا من الاحتمال، كما يمكن أن تستغليه لإيصال الهداية إلى من حولك.

والانعزال عن هذا المجتمع هو أحد الحلول ولا شك، ولكنه يجب أن يكون آخرها، لأنك بانعزالك عنه تفوتين فرصة النصح والتوجيه لأهلك وأقاربك، فهو أسهل الحلول على الإنسان وأشدها راحة، بينما مخالطة الناس والصبر على أذاهم والحرص على هدايتهم يكلف الإنسان الكثير من الجهد والعناء، ولذلك استحق الخيرية التي قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم\".

ولذلك -أختي- الذي أتمناه منك أن تتحولي من السلبية إلى الإيجابية، ومن التأثر إلى التأثير.

قلتِ: (إما أن أجاريهم فيما يفعلون وإلا أقطع رحمي)، وأنا أقول لك هناك خيار ثالث!! أن تخالطيهم، وتتوجهي إليهم بالنصح والموعظة الحسنة بالرفق واللين، وأن تهدي إليهم بعض الكتب والأشرطة، وأن تبني معهم علاقات مودة تفتح قلوبهم لك ولنصحك، وصدقيني مهما قلت عن المنكرات التي يمارسونها فسوف تجدين لكلماتك وقعاً، ولنصحك تأثيراً، ولغرسك أرضاً خصبة، ولكن كلامي هذا لا يعني أن تريهم على منكر وتجالسيهم!! لا، بل تناصحيهم، فإن لم يستجيبوا فاتركي ذلك المجلس الذي يعمل فيه المنكر، مع إبقاء صلتك بهم طيبة. ربما تقومين بذلك كله وتصبرين ولكن لا تجدين استجابة بل تجدين إصراراً على المعصية!! ربما!! فهنا قد تفكرين في قطع المجالس التي تتوقعين أن يكون فيها المنكر وهجر من يفعله، ولكنه كما قلت آخر الحلول.

أرأيت أنك تستطيعين أن تكوني إيجابية مؤثرة مع احتفاظك بمبادئك!!.

بقي أن أوجه لك هذه النصائح:

01 اعلمي أن الإيمان شجرة إذا لم تجد ما يغذيها في القلب ذبلت وهزلت حتى تموت والعياذ بالله، وتغذيتها بقراءة القرآن وحفظه وتدبر آياته والعمل بها، حضور مجالس الذكر، طلب العلم، وتعلم الأمور التي لا يستغني عنها مسلم في عبادته لربه.

02 الصحبة الصالحة عنصر مهم جداً، فابحثي عن أخوات صالحات في حيك أو في مدرستك أو جامعتك أو في أي مكان، وتواصي معهم بالحق والصبر.

03 لا تنظري إلى من حولك بعين المقت والاحتقار لأنهم عصاة، بل بعين الشفقة والرحمة أن تمسهم النار.

04 كرري هذا الدعاء في سجودك وفي كل وقت: (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك)

أسأل الله أن يثبت قلبك ويعمره بالإيمان، ويرد أهلك إليك رداً جميلاً.

 

  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply