تعرف على نفسك وأحسن الظن بربك


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

السؤال

نشأت في أسرة أنا أصغر أفرادها، وكان ينتابني شعور بالغربة والوحدة، إلا أن معه شعور طيب، وهو الشعور بمعية الله.

كنت أحب الموسيقى والغناء، وعرفت الاستمناء قبل أن أبلغ الحلم، وكنت آنذاك دون العاشرة، ولكني أقلعت عن كل هذه المعاصي.

دخلت كلية الهندسة، وبدأت مأساتيº حيث إنني رسبت في السنة الأولى، وفي السنة التي تليها، وعلمت أنني لا أصلح في هذا المجال، وأرغب في التحويل إلى كلية أخرى مثل كلية الشريعة، وقد أخبرت أهلي بذلك، ولكنهم أصرٌّوا على أن أواصل في كلية الهندسة، الأمر الذي اضطرني إلى الهروب من البيت، والسفر خارج البلاد..ولكن عدت بعد غيبة، فوجدت من أهلي منذ أول يوم بعد عودتي- استعدادهم التام لعمل أي شيء، لكن سرعان ما اتهموني بالجنون وبالأنانية، رغم أنني الوحيد الذي كنت أساعد أهلي في البيت، خاصة أمي، فقد كنت أقوم بخدمتها، وعندما أفرغ من الخدمة أتظاهر بأنني نائم، حتى لا تشكرني على أمر أحسبه واجبًا عليّ.

وقد تغيَّرت علي زوجتي التي كانت تحبني حبًا شديداً، فصارت تكرهني، وقد وصل بها الأمر أن تمنَّعت علي في الفراش، رغم كثرة وشدة مطالبتي لها.

بدأت نفسي تراودني، وبدأت في الرجوع إلى عادات كنت قد تركتها، مثل الاستمناء والغناء والموسيقى، وصرت قلقًا، وصار التشاؤم شعاري، وأنا خائف خوفًا شديداً مما اقترفته من معاصٍ,، وأخشى أن يكون ذلك طريقًا يصل بي إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله. فبماذا ترشدوني؟

 

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أخي الكريم - حفظه الله - ورعاه.

فلقد عشت مع مشكلتك التي أقلقتك، وأقلقتني عليك كثيراً.. فلقد حاولت أن أحلِّل وأجمع الأمور المهمة التي نغّصت عليك معيشتك وكدَّرتها، وأنقصت من إيمانك بعد أن كنت تشعر بمعيِّة وقرب الله منك، وهذا طبيعي لمن يتقي الله ويراقبه، ويسعى لتتبع محاب الله ومرضاته، ويعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فهو يراه.. فوجدت أن مشكلتك تتلخص فيما يلي: ولعلك تكون معي:

أولاً: أهلك وعدم رضاهم عنك، لا سيما في عدم إكمال الدراسة، ورسوبك المتكرر في التخصص الذي اختاروه لك ولم تختره أنت، مع علمك أنك لن ولم تستفد منه.

ثانياً: رجوعك للاستمناء بعد أن تاب الله عليك، والغناء وإن كان في بداياته.

ثالثاً: زوجتك التي تحبك وتحبها، وتمنّعت عنك وعن الفراش.

رابعاً: الخوف الشديد من سوء الخاتمة.

اسمع وافهم وعِه ما أقول لك، ولا تغضب من بعض الحق الذي سأقوله لك. فأقول وبالله التوفيق:

يا أخي الكريم أنت على خير، وشعورك بالغربة الدينية وسط أهلك هو شعور طيب، فطوبى لك كما قال - صلى الله عليه وسلم - للغرباء، لكن قد يأتي حال للإنسان في وقت يكون أقرب ما يكون لله دون وقت آخر، وهذا كان في عهد الصحابة رضوان الله عليهم- عندما يكونون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندما يعودون لأهليهم وأولادهم ينشغلون بالدنيا.. فعندها قال لهم - صلى الله عليه وسلم -: \"لو كنتم تكونون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة\". صحيح مسلم (2750)، وغيره.

المهم أن الإنسان يجاهد، ويحاول مع نفسه وإن أخطأ وإن قصّرº فالله - تعالى -وعد ووعده حق \"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا\" [العنكبوت: 69].

وقد مرَّت بك -يا أخي- ابتلاءات كثيرةº ليرى الله منك، ولِتُري الله منك أنك ثابت على الحق وعلى الطريق المستقيم \"أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون\" [العنكبوت: 2]. فالقضية فتنة واختبار.

لكن يا أخي الفاضل هناك أمور عليك التنبه لها، منها:

1- سفرك بدون علم أهلك.. ولِمَ؟ وكيف؟

فالجهاد.. وهو جهاد لا يجوز إلا بإذن الوالدين، فهل من البر ما فعلت؟ بل من العقوق!! وقد يكون كما وصفك والداك من الأنانيةº لأنك عند سفرك فكَّرت في نفسك فقط، لم تفكر في حال والديك.. مَن سيكون لهما؟ مَن سيقضي حاجاتهما، هما وأهل بيتك؟ كيف سيكون حالهم من خوف وهلع شديد.. أصابك مكروه أم لا؟!!

أتوقع لو أن ابنك فعل ما فعلت لغضبت ولقلقت عليه من صحبة سوء، أو من مكروه أصابه.. أليس كذلك؟!!

فاحذر يا أخي من العقوق.. وتقول إنك كنت تحاول أن تخدمهما بعد عودتك، وتتظاهر بالنوم حتى لا يشكراك هل هذا هو التعويض، التعويض لا بد أن يكون قويًّا جدًّا حتى يزول ما بنفسيهما.. وأنت إلى الآن لم تفعل ذلك حسب ما ذكرت.

ثم لِمَ التظاهر بالنوم!! جيِّد أن الإنسان يخلص عمله لله، لكن والديك يريدان التكلم والتحدث معك، تعطيهم ما عندك، ويعطونك ما عندهم. ثم إن سفرك هذا هروب من الواقع.. نعم هروب لكن إلى أين ونفسك هي نفسك لم تتغير؟

2- دراسة الهندسة لِمَ لن ولم تستفد أو تفد منها؟! العلم الشرعي صحيح هو علم يُقرِّب إلى الله إن أخلص العبد النيَّة لله - تعالى -، وعمل بما علم، لكن التخصصات غير الشرعية -كالهندسة والطب والتجارة وغيرها من التخصصات- إذا أُحِسن توظيفها فإنها تعين دارسها على طاعة الله - تعالى -، وتجعله مؤثراً على مَن حوله أكثر ممن هو تخصصه شرعي، فتكون داعية لله بذلك التخصص.

3- أسألك سؤالاً آخر: عن زوجتك.. ولِمَ تمتنع عنك رغم كثرة وشدة مطالبتك لها إلى الفراش؟ ففعلها هذا حرام لا يجوز، وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب إن لم يكن هناك عذر شرعي لها.. ثم إنك لم تذكر أنها أجابت إجابة مقنعة عن سبب تمنعها عنك مع محبتها لك.. لِمَ؟ فلا الحمل ولا الولد الصغير يمنع من ذلك.. ثم إن ذلك جرّك مرة أخرى إلى (الاستمناء).

فعليك بالوضوح والنقاش الهادئ والحوار المفتوح.. فلعل هناك ما يمنعها؟!!

4- قلت: بل وذقت الرسوب مرة أخرى.. لا تكن نفسيتك بهذا السوء، فرسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - قابلته المحن تلو المحن، والمصائب تلو المصائب، لكن لم يجلس مكانه مرة، وقال: انتهيت، بل كان يجدد الأمل، وأنه سيصل، ولعل هذا واضح في قوله - تعالى -: \"ما ظنك باثنين الله ثالثهما\".

لكن لا بد أن تجدِّد نيتك لله، وتحتسب هذه الدراسة لله - تعالى -، وأنك بهذا التخصص ستكون داعية إلى الله بإذنه - تعالى -.. والله قادر... لكن ابذل ما عندك وانته، وسترى خيرية هذا التخصص.. يكفي أنه إرضاء لوالديك، ثم ستجد أكثر مما تحتسب إن شاء الله - تعالى -.

5- لا يكن كما ذكرت- التشاؤم شعارك، بل إن الله - تعالى - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ولو أن العبد جاء إلى الله - تعالى -بقراب الأرض خطايا، ثم جاءه لا يشرك به شيئاً غفر له كل ذنوبه ولا يبالي.. أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فالله غفور رحيم ودود يتودَّد إلى عباده، يغفر ويحلم، ويستر ذنوبهم، يعفو عنهم.. فأكثر من الدعاء.

6- أكثر يا أخي من الدعاء.. فالله يحب سماع صوت عباده، ويغضب ممن لا يسأله من العباد، فهو الكريم - سبحانه - القريب بعلمه بحالنا وما نحن عليه.. فأكثر يا أخي.

7- هل جرّبت قراءة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ اقرأ كتاب (الرحيق المختوم) أو (هذا الحبيب يا محب)، أو (صور من حياة الصحابة) لعبد الرحمن رأفت الباشا، وانظر كيف تكون النفسية!! ومن ذلك كذلك العلم الشرعي يعطي نوراً للقلب والعقل، ويصحِّح السير.. لكن انتبه ممن تأخذ العلم الشرعي.. حتى يكون كذلك.

8- تقول: هل هذه سوء خاتمتي؟. لِمَ لا تقول: هذا اختبار ليختبرني ربي هل أصبر أم لا؟..

9- فلذلك عد يا أخي كما كنت، وتجاوز تلك الاختبارات، وصحِّح مساراتك وعلاقتك بأهلك وزوجتك.. ولو عدت لتلك الذنوب مرات ومرات فاعلم أن لك ربًّا يغفر الذنوب.. ولو لم يذنب العباد لخلق الله خلقاً يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم.. فلعل الله يحب سماع صوت تضرعك إليه بالدعاء والخضوع له.

أسأله الله العظيم أن يلهمك رشدك، ويهديك سواء الصراط، ويرزقك العلم النافع والعمل الصالح، وأن يحسن خاتمتي وخاتمتك.. آمين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply