مئات من المتحرشين بالمحارم يعيشون بيننا


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

خديجة عمر الحارثي.. اختصاصية نفسية حصلت على ماجستير في علم  النفس، ودرست العديد من الحالات التي تعرضت للتحرش خاصة الأطفال، وهي تؤكد أن مرور الطفلة أو الطفل بهذه التجربة "الأليمة" يحدث في نفسه أثراً كبيراً قد يبقى معه طيلة العمر، وتلقي الحارثي باللائمة على الأسرة (الأم الأب) الذين يتركون أبناءهم الصغار مع أقاربهم دون الاهتمام بمدى تديّن هذا "القريب" أو اتزان سلوكه.

تنفي خديجة الحارثي مقولة إن الطفل المتحرَّش به هو مشروع لشخص غير سوي في المستقبل، لكن مع ذلك تذهب إلى أن الآثار  النفسية السيئة التي تتركها هذه الجريمة قد تقود ذات الضحية إلى ارتكاب جرائم مماثلة في المستقبل.

وتأمل الحارثي الاختصاصية  النفسية في إحدى المستشفيات السعودية- أن تكون هناك "نفرة" عامة ضد هذه الجريمة يتكاتف فيها الضحايا مع ذويهم مع الجهات العدلية والاختصاصيين  النفسيين والاجتماعيين، لاقتلاع هذه الظاهرة من جذورها... وهنا حوار مطول معها...

 

هل هناك آثار مستقبلية ضارة تحدث للطفل الذي يتعرض للتحرش؟

 مما لا شك فيه أن هناك آثاراً ضارة بشكل قد لا يتصوره الكثيرون فالطفل الذي يتعرض للتحرش الجنسي أو الاعتداء بشكل كامل يتعرض لاضطرابات نفسية خطيرة إما على شكل أن يكون عدوانياً متمرداً كارهاً للآخرين، أو أن يكون قلقاً مع نوبات شديدة من الاكتئاب والحزن لتعرضه لتجربة عنف تفوق إدراكه وفهمه، وتنتابه مشاعر انعدام الأمن والمخاوف الشديدة.

وأسوأ ما يصيب الطفل من التحرّش والاعتداء الجنسي هو التدمير العاطفي لمشاعره، وسبب هذا التدمير يرجع أساساً إلى الرعب والخوف من المعتدي، فهو حالة اعتداء من شخص أكبر حجماً وأكثر قوة، إنها علاقة غير متكافئة، فهي دائماً مرتبطة بالخوف والتهديد، وبالتالي سيؤثر ذلك على استمتاع الطفل بالجنس بعد البلوغ، وبعدما يصبح رجلاً أو تصبح امرأة، ويزداد الخوف في حدته إذا كان الشخص المعتدي هو قريب، ومن دراسات كثيرة أثبتت أن  المرأة المصابة بالبرود الجنسي بسبب التحرّش الجنسي في الطفولة من المحارم تصل الفتاة إلى مرحلة من النفور مع  الزوج لاعتبارها أن الجنس هجوم وليس دعوة للاستمتاع.

 

هل صحيح أن أي متحرِّش أو معتدى عليه هو (مشروع) لشخص غير سوي في المستقبل؟

 قد يكون المتحرَّش به في بعض الأحيان، وليس دائماً مشروعاً لشخص غير سوي في المستقبل إذ إن تعرضه للإثارة الجنسية، وهو في سن صغير والتي سوف يجد أن من الصعب عليه إشباعها، وبالتالي يعيش في قلق وتوتر قد تقضي على مستقبله في الدراسة والحياة، وقد يعيد نفس تلك القصة التي حدثت له بعدما يصبح رجلاً بالغاً.

 

هل من السهولة معالجة تداعيات التحرّش عند المعتدى عليه؟ وهل هناك فروقات بين التحرّش بطفل وبين التحرّش بشخص بالغ؟ وأيهما يتمكن من تجاوز الآثار بصورة أكبر وأسرع؟

ليس من السهولة معالجة تداعيات التحرّش عند المعتدى عليه، وخاصة لدى الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة، والاعتداء على الطفل جنسياً من جانب البالغ تجربة انفعالية مدمرة بالنسبة للطفل، وتترك لديه مشاعر عنيفة بالذنب، وقلقاً هائلاً، ويشعر بعدها بمزيج من الرعب والغضب، لذا يكون من الصعب علاج الطفل من آثار الصدمة، والتي قد ئؤثر على مستقبله، ويحتاج الطفل إلى خضوعه لجلسات علاج فردي وأسري لتدريب الأهل على كيفية مساعدته على تخطي آثار هذه التجربة المؤلمة. والبالغ أيضاً يمر بالمعاناة  النفسية من الاعتداء، ولكن لأن بناءه  النفسي مكتمل يستطيع بالمساعدة تخطي الأزمة بصورة أسرع من الطفل وبأضرار نفسية أقل، وتكون الصدمة  النفسية لدى الطفل أكثر من الاعتداء ذاته فالطفل يحتاج ليس فقط ممن اعتدى عليه، ولكن من انفعالات المجتمع من حوله، وخاصة تلك التجربة الحرجة، وهو يدلي أقواله وقصة الاعتداء عليه وذكر تفاصيل محرجة، ويرفض بعض الأهالي إبلاغ الشرطة عن حدوث اعتداء جنسي على أبنائهم ليجنّبوهم هذا الموقف الحرج، والذي قد يظل في نفسية الطفل مدى الحياة، هناك ضرورة لحماية الطفل من الآثار النفسية التي تعقب تعرضه للاعتداء.

 

 من الناحية الطبية و النفسية.. ما هي الأسباب التي تدفع شخصاً ما للتحرّش بمحارمه؟ أو التحرّش بأي شخص كان؟

 معظم المتحرّشين بال أطفال هم من الرجال في أغلب الأحوال، وهم يعانون من سوء توافق اجتماعي، وبعض الاضطراب العقلي، وقد يصاحب ذلك أن يكون مدمناً للخمر أو  المخدرات، وإذا كان كبير السن فالغالب أن يدفعه إلى هذا الفعل الجانح شعوره بالوحدة، وهو شعور قد تكون لعلاقته بالبنت الصغيرة أو الطفل راحة منه، وخاصة أن ضحاياه من بين معارفه من ال أطفال الذين يكونون متاحين له في الغالب للاستفراد بهم وغوايتهم بحكم قرابته.

ومعظم هؤلاء الشواذ بحبهم لل أطفال لا يملكون شهوة جنسية أقوى من غيرهم، لكنهم عجزوا عن إيجاد متعة جنسية في واقعهم مع أي علاقة ناضجة، هذا النوع من المتحرّشين يركز اهتماماته الجنسية على الأطفال ليس كرغبة قوية تربطه بهم، وإنما لخجله وضعف قدرته على التعامل الجنسي مع النساء البالغات، وهو نوع من السادية التي تظهر عنف الرجل عندما يكون غير واثق جنسياً من نفسه فهذا العنف من جانبه يعطيه الثقة الكافية في نفسه وفي رجولته.

ويكون الطفل لهؤلاء الساديين فريسة أسهل في ترويضها وإخضاعها من البالغين، ولذا نجد أن هؤلاء المتحرشين يعشقون الممارسة الجنسية مع الأطفال ويفضلونهم عن البالغين، ويشكل هؤلاء الساديون خطراً جنسياً كبيراً في أي مجتمع لأن اغتصابهم لل أطفال قد يكون عنيفاً إلى درجة تهدد الحياة، ويزداد الخطر كلما قرب الشخص المعتدي من الطفل لصعوبة اكتشاف اعتداءاته المتكررة.

 

 هل يمكن أن يكون النزوع إلى مثل هذه الممارسات وراثياً؟ أي هل يلعب العامل الوراثي دوراً في هذا الأمر؟

 لا توجد علاقة في النزوع إلى التحرش والاعتداء على ال أطفال وبين العوامل الوراثية، ولا توجد جينات وراثية مسؤولة عن قيام الإنسان بهذه الممارسات، بل هي عوامل اجتماعية وأسرية وبيئية مجتمعة معاً هي المسؤولة عن ظهور هذه الحالات الشاذة، واضطراب الشخصية هو من أحد الأسباب الرئيسة لهذا الإنحراف.

 

 هل ترين أن قضية التحرّش لها أبعاد أخرى غير  النفسية والطبية؟

 لا يمكن أن نفسر التحرّش  الجنسي بال أطفال أو أي اضطرابات جنسية أخرى بعيداً عن الأسباب  النفسية لأن هذه القضية المحرك الأساسي لها هو اضطراب الشخصية، وأيضاً من الممكن أن تكون من ضمن المسببات الرئيسة لها هو عدم وجود الرقابة في حماية الأطفال من هذه التحرّشات، وغياب الرقابة العائلية الكافية، وعدم وجود وعي كاف في مجتمعاتنا لحماية الأطفال من هذا العنف النفسي والبدني الذي يتعرضون له، وأيضاً عدم  القدرة على مناقشة الأمور  الجنسية ونقص الوعي في هذا الجانب من العوامل التي تساهم في انتشار هذا الاضطراب والخجل من طرحه في وسائل الإعلام.

 

هل هناك أسباب أخرى تدفع الشخص للتحرش (أسباب غير نفسية وغير طبية)؟

 نعود للتأكيد بأن التحرّش الجنسي بالأطفال هو أحد الانحرافات الجنسية التي تنتشر بنسبة أكبر بين الرجال، ومن الصعب استبعاد العوامل  النفسية عن التحرّش بال أطفال.

وقد يكون من بعض الأسباب وجود بعض المتحررين جنسياً، والذين يمارسون حياتهم الخاصة عرضاً وطولاً قد يتحولون في النهاية إلى ممارسة هذا النوع من الانحرافات أملاً في العثور على متعة جنسية جديدة لهم مع الأطفال.

وبعض الرجال الطبيعيين تحت ضغوط الحرمان الجنسي أو الاضطرابات العقلية أو لإدمان الخمور قد يتحولون ويلجؤون إلى إقامة علاقات شاذة مع الأطفال.

 

ما هي المعالجات التي وضعها الطب وعلم  النفس للمتحرَّش به؟

يحتاج الشخص المتحرَّش به إلى الكثير من  الوقت والجهد للتخفيف من التجربة الصادمة التي تعرض لها، ويُصاب المتعرضون للتحرّش باضطرابات مختلفة بما يُطلق عليه اضطراب ما بعد الصدمة مثل الشعور المبالغ فيه بالخوف، وتجتاحهم أحياناً صور ذهنية حادة وحسية لأحداث عنيفة يكونون فيها ضحية لهجوم من الخلف أو هجوم جنسي.

ويتركز العلاج في البداية على إعطاء المعتدى عليه فرصة للتعبيرعن الغضب الكبير ومشاعر الإحباط والشعور ب الظلم والإحساس بالذنب للعجز عن حماية نفسه ومنع الاغتصاب.

وإستراتيجية العلاج المستخدم لتلك الحالات هي العلاج السلوكي المعرفي المركز، والعمل على استمرار الشخص في الاستمرار في بناء حياته ومستقبله، ويحتاج المريض أيضاً للدعم الاجتماعي والأسري.

 

وهل ترين أن الشخص المتحرِّش هو أيضاً في حاجة إلى معالجة طبية ونفسية؟

 المتحرّش هو مضطرب في شخصيته، وهناك ضرورة لعمل قوانين وإجراءات تحول بينه وبين ارتكاب المزيد من التخريب الاجتماعي و النفسي، وخاصة أن ضحاياه من القُصّر وال أطفال، والشخص المتحرّش قد يُحكم عليه بالسجن، وقد يودع مصحة عقلية، وقد يخضع للعلاج  النفسي في بعض الحالات، وغالباً لا يستفيد من البرامج العلاجية لعدم وجود الدافع لديه.

ولا يوجد حتى الآن في مجتمعاتنا العربيه برامج علاجية متكاملة لهذه الحالات، وما يحدث هو اجتهادات فردية. هذه الحالات في مجملها تحتاج إلى خضوعهم لبرامج تأهيلية ومتابعة دورية حتى لا يعودوا إلى نفس الممارسات ضد الأطفال بعد انتهاء فترة العقوبة، حتى نستطيع حماية المجتمع وحمايتهم من أنفسهم.

 

 هل وصلتك حالات اعترف فيها شخص بأنه يميل إلى محارمه؟

لم يصلني حالات اعترف فيها الشخص بأنه يميل إلى محارمه، ولكن مرت حالات اعترف الأهل أو المريض بحالات اعتداء من المحارم، وهم في حالة انهيار شديد قلبت حياتهم، وأفلت المغتصب من العقاب لعدم قدرتهم على الإبلاغ عنه خوفاً من الفضيحة، ولأنه من الأقارب وخوفاً من ارتكاب جريمة من الأب ضده.

 

ما مستقبل قضية التحرّش بالمحارم.. هل تتوقعين أن تنتشر أم تنحسر؟

 التحرّش بالمحارم في غالبية الحالات لا يتم الإبلاغ عنه، وما يصل إلينا في الغالب هي حالات قليلة، لذا لا يمكن تقدير مدى ازدياد الحالات من عدمه.

وينتشر التحرّش بالمحارم لأن المعتدي على الأطفال يمارس نشاطه غالباً على أطفال الجيران والمعارف، وعلى الأهل والأقربين كأطفال الأخ والأخت، أو أولاد الزوجة والأحفاد، بل قد يعتدي على أولاده القُصّر إذا كان سكرانَ، وتكمن المشكلة في أن الطفل المتحرَّش به من المحارم، ويكون المتحرّش في الغالب هو المسؤول عن حماية الطفل، لذا يكون العنف على الطفل أقسى من المحارم لسهولة وجوده معه، بحكم القرابة وسهولة انصياع الطفل لهذا القريب لأنه يأمن له وحتى في حالة حدوث الاعتداء لا يصرح به الطفل إلا عند تعرضه لاضطرابات نفسية شديدة عند البلوغ بسبب تأثره بهذه الصدمة  النفسية.

 

ما هي المعالجات الكفيلة باقتلاع هذه الممارسات؟

الأم ومن ينوب عنها هي الحامي الأول والطبيعي للطفل البشري، وهو أضعف المخلوقات على الأرض والرعاية من ضمنها حماية الطفل من المؤثرات الخارجية الضارة، وحتى من الآخرين مهما كانت درجة قرابتهم، هناك ضرورة فعلية للثقافة الجنسية لدى الأهل، والتي من الممكن عن طريقها أن يتعرف الطفل على خصوصية جسده، وأنه لا يحق لأحد أن يقتحم هذه الخصوصية لجسده مهما كانت درجة القرابة، وألاّ يدع أحداً يلمسه، وخاصة من المقربين أو القائمين على خدمته كالخادمة والسائق.

التوعية للأهل ضرورية ووجود رقابة ورعاية لل أطفال بشكل ناضج وبدون سيطرة أو مبالغة في الاهتمام، وألاّ يُترك ال أطفال بدون ملاحظة.

وأيضاً هناك دور مهم وحيوي لوسائل الإعلام المرئية والمقروءة في عمل البرامج التوضيحية لهذه المشكلة التي تُثار على استحياء في معظم الأوقات.

 

هل تعتقدين أن بعض حالات التحرّش تحتاج إلى تدخل من الجهات الحكومية؟

ليس في بعض الحالات بل رأيي أن كل حالات التحرّش يجب أن يكون هناك سلطة قضائية للعاملين في المؤسسات العلاجية تمكنهم من متابعة هذه الحالات، وعمل زيارات لهذه الأسر للتأكد من عدم سهولة تعرض الطفل أو أي طفل آخر في الأسرة لهذه التحرّشات وعمل حماية اجتماعية لمثل هذه الحالات ومتابعتها ببرامج واضحة، وبتكليف أشخاص مفوضين في المؤسسة العلاجية من قبل الجهات الحكومية بمتابعة الحالات ومساعدتها حتى نتمكن في حصرها والتقليل من الآثار الجانبية.

 

ما هي آليات التعامل مع حالات التحرّش الجنسي في إدارات الرعاية الاجتماعية والطب النفسي؟

لا توجد آليات واضحة فيما يتعلق بتخصصنا لأن المجهودات المبذولة هي فردية، ولا يوجد قواعد واضحة عند وجود مثل هذه الحالات. المرضى يحضرون لاضطرابهم وطلبهم التخلص من مشاكلهم ويرفضون التبليغ، هناك حاجة لوجود إستراتيجية واضحة للتعامل مع مثل هذه الحالات، وأن يكون هناك تعاون بين الجهات المختلفة لمساعدة الطفل أو مَن تعرّض للتحرش على اجتياز الأزمة بدون تعرضه للفضيحة التي تكون بالنسبة له أقسى من فعل الاعتداء ذاته.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply