بسم الله الرحمن الرحيم
يحبذ كثيرون أن يضمن قضية \"التحرّش\" في إطار العنف كنوع مسكوت عنه لهذه الظاهرة، والتحرش لايمكن أن يُطلق عليه تحرش إلاّ إذا كان رغماً عن المتحرَّش به، وبالتالي تخرج عنه الممارسات الشبيهة التي تحدث برضاء الطرف الآخر.
ويرى الاختصاصيون الاجتماعيون أن المجتمعات العربية تحاول دائماً أن تسدل على هذه القضية ستارة داكنة لأسباب مجتمعية تحاسب المتحرِّش والمتحرَّش به على السواء، وتدخلهما تلقائياً في ما يمكن تسميته بـ \"القائمة السوداء\"، وهذا إن صح في جانب المتحرِّش، إلاّ أنه لايصح في جانب المتحرَّش به.
وتُعدّ قضية التحرش من القضايا الوحيدة التي تتفق فيها جميع الطبقات الاجتماعية في إخفائها، فالمتعلم والجاهل والفقير والغني سواء في النظرة لهذا الجانب، فكلهم يحاول إخفائها بكل مايستطيع، لأن النظرة الدونية التي يُنظر بها للمتحرِّش أو المتحرَّش به تكاد تكون متساوية في النهاية، وهذه النظرة هي التي أعاقت كشف الكثير من الممارسات التي تدور في الخفاء، ومن أهمها بالطبع التحرّش بالمحارم.
والتحرّش الجنسي يكاد يكون قضية تعيشها المرأة والقُصّر بشكل يومي في المدراس والشارع، وفي المنازل أيضاً حيث يفترض الأمان والثقة والعيش مع أناس هم من أقرب المحارم في العادة.
ومع هذا الاتصال الشديد للتحرّش (يحدث في كل مكان وأي زمان) فإن المطلوب عادة، وفق المعتقدات، هو السكوت والتكتم وعدم التحدث عما يحصل خلف الأسوار، مما يدعو إلى التساؤل حول أسباب هذا السكوت؟
والتحرّش في تعريفه هو عمل واعٍ, مقصود يقوم فيه إنسان بكامل إرادته تسبقه رغبة جنسية \"مريضة\" يريد أن يشبع هذه الرغبة بطرق قد تكون سمعية أو حسية أو رمزية، والحسي أي الجسدي- يُعدّ هو النوع الأكثر شيوعاً.
والتحرّش كما يطال النساء والصبيان قد يطال الرجال أيضاً، وتشير التقارير العالمية المختصة بهذا الجانب أن هناك نسبة كبيرة من الرجال الذين يتعرضون للتحرّش سواء كان لفظياً أو حسياً أو أي نوع آخر، لكن مع هذا فإن النساء بالتأكيد هن الأكثر تعرضاً للتحرش لطبيعتها، ولأنها -في الغالب- ليس باستطاعتها الدفاع عن نفسها، وصدّ الأذى.
وقضية التحرش في مجتمعاتنا كما يرى المتخصصون في حاجة إلى تعريف جديد فهناك وسائل حديثة دخلت في هذه العملية، وليس آخرها الإنترنت والماسنجر، فهو قد يشكل أيضاً تحرشاً بأي من مفاهيمه السابقة، إذن فإن الاقتصار على تعريف التحرش بأنه ما يحصل للمرء أمامه فقط ليس صحيحاً في أغلبه.
لم يعتد العالم العربي والإسلامي أن يواجه قضايا التحرش بموضوعيةº فالأسرة التي يتعرض فرد من أفرادها للتحرّش تسارع إلى تغطية الأمر، وتحاول وسعها ألاّ يصل إلى العلن، وبالذات إلى الجهات القضائية، وحتى لو وصل للجهات القضائية فإن هذه الجهات نفسها تعطي الأمر كماً كبيراً من الكتمان، ويشتكي الباحثون من هذا الأمرº فالتعرض لموضوع التحرش يظل من الدوائر الممنوع الاقتراب منها، وبالتالي فإن الإحصائيات تظل دائماً غير دقيقة، ذلك إلى جانب أن القيام بمعالجة آثار هذه التحرشات أيضاً فيه خلل كبير، فالعدد الذي يخضع للعلاج قليل جداً بالنسبة للعدد الحقيقي التي يتعرض للتحرش على الرغم من أن هناك آثاراً سيئة للغاية لهذا التحرش سواء كان بالنسبة للفتى أو الفتاة، ويحتاج لفترة زمنية طويلة لكي يستيطع من يتحرش به أن يستعيد توازنه، وفي ظل عدم الافصاح عن هذه الحالات فإن هذا يعني أن العدد الأكبر من المتحرَّش بهم يظل دون علاج. وهنا يشير المتخصصون إلى مسألة أخرى مهمة، فالذي يحتاج العلاج ليس هو المتحرَّش بهم فقط، وإنما الأشخاص الذين يقدمون على هذه (الفعلة) هم أيضاً في حاجة إلى علاج نفسي وتأهيلي حتى يتمكنوا من التخلص من هذه النزعات، وهي في تعريفهم نزعات \"مريضة\" لايقدم عليها الأسوياء، ومن يتمتعون بصحة نفسية متوازنة، وهنا أيضاً تبرز مشكلة الإفصاح مرة أخرى، فأهل المتحرِّش أو المتحرِّش نفسه يبتعدون عن تلقي هذه المعالجات ربما خوفاً من التشريعات الجنائية، أو المساءلة الاجتماعية، وهي في الغالب الأكثر تأثيراً، وأياً كان الدافع وراء التخفي، وعدم إظهار الشخص لطبيبه عن هذه النزعات فإن عدم العلاج يعطي مؤشرات إلى أن موضوع التحرش بالمحارم قد يأخذ مناحي خطيرة في المستقبل، وربما تزداد معدلاته.
ومن ضمن الإشكاليات التي تتبدى عند محاولات الغوص في موضوع التحرّش بالمحارم، جانب أن الفتاة أو الفتى عندما يقول بأن هناك من تحرّش به، ففي الغالب لا يجد من يصدقه من أقاربه وأهله، خاصة إذا كانت فتاة، وتبدأ معه الفتاة رحلة من التشكيك، فبعضهم قد يظن أن ادّعاء الفتاة لواقعة التحرّش ما هو إلا هرب من جناية ارتكبتها في حق نفسها، وهذا الجانب يقفز إلى أذهان أغلب الفتيات في العالم الإسلامي والعربي عندما تهم بأن تقر بوجود حالة تحرش، وكنتيجة مباشرة لذلك تعدل هذه الفتاة عن الاعتراف، وتتشبث بالصمت، مما يؤدي إلى استمرار التحرّش سواء بها أو بغيرها، فالجاني حر طليق يأمنه الجميع على أبنائهم وفتياتهم.
ولكي يصل الجميع إلى حل مثالي لهذه الإشكالية يقول المختصون بأنه يجب توافر الاحصائيات الدقيقة لحجم هذه المشكلة، وهل هي وصلت إلى طور الظاهرة أم أنها في مراحل أقل من ذلك، كذلك ينبغي أن يعي المجتمع أن التحرّش كسلوك مرضي، يتم في الخفاء التام، واستمرار الخوف من الإعلان عن الجاني أو المجني عليه يحول دون علاج جذري للمشكلة.
أيضاً ينبه المختصون إلى أهمية تضافر جهود عدد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في المجتمع للمساهمة في إيجاد علاج ناجع، مثل الجهات العدلية ومؤسسات حقوق الإنسان والقطاعات المهنية كالأطباء النفسيين والاختصاصيين الاجتماعيين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد