بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ الكاتب الفاضل مقاله في الجزء الأول بمدخل عن سبب دراسة الموضوع وأهميته ثم أوضح تحت عنوان أهمية القائد الأهمية الواقعية للقائد الإداري وتوجيهات الشرع نحو ذلك ثم بين تحت عنوان مسئولية القائد أن هناك تبعة ومسئولية ثقيلة على القادة، ثم بدأ في ذكر أهم الصفات الواجب توافرها للقائد المسلم..وها نحن نكمل معك أيها القارئ الكريم- أهم صفات القائد المسلم في الجزء الثاني من المقال..
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي
13- أن يتغافل عن بعض الأشياء التي يحسن التغافل عنها، قال بعضهم: أكره المكاره في السيد الغباوة وأحب أن يكون عاقلا متغافلا كما قال أبو تمام.
14- أن يتعامل مع منافسيه وحساده بذكاء، فيحرص على كسب الود وتقليل الأعداء، وقد قال محمد بن يزداد(2): إذا لم تستطع أن تقطع يد عدوك فقبلها(3). وخير من ذلك قول الله - عز وجل -: \"ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ,\" (فصلت: 34، 35).
لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحدا إلا خاليا فإنه أموت للسر وأحزم في الرأي وأدعى إلى السلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض
15-أن يكون مطيعا لمن فوقه، وأصل هذه القاعدة ما رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة\"(4)، وهذا في الولاية العامة ويدخل فيها الولاية الخاصة، و روت لنا كتب التراث عن أحد ملوك الفرس الحكماء وهو ابرويز بن هرمز أنه قال: أطع من فوقك يطعك من دونك(5).
16- أن يحسن أدبيات التعامل مع من فوقه، فمن ما ورد في ذلك:
• قال العباس لابنه عبد الله رضي الله عنهما وقد كان يختص بعمر رضي الله عنه: يا بني إني أرى هذا الرجل يدنيك وإني موصيك بخلال: لا تفشين له سرا ولا تخونن له عهداً ولا تغتابن عنده أحداً ولا تطوين عنه نصيحة(6).
• وقال أبو الفتح البستي: أجهل الناس من كان على السلطان مدلاًّ وللإخوان مذلاًّ(7).
• وقال الفضل بن الربيع: مساءلة الملوك عن أحوالهم تحية النوكى (8).
• وقد بالغ بعضهم فقال: لا تسلم على الملك فإنه إن أجابك شق عليه وإن لم يجبك شق عليك(9). وهذا مخالف لأدب الإسلام، ومثل ذلك ما ذكروا من عدم تشميته وألا يعزيه وكل هذا تعظيم مردود.
• وقال ابن عباد:
إذا صحبت الملوك فالبس * * * من التحلي أجل ملبس
وادخل عليهم وأنت أعمى * * * واخرج إذا ما خرجت أخرس(10)
17-أن يكثر المشورة، وذلك استجابة لقوله - تعالى -: \"وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ\" (آل عمران: من الآية159)(11)، وفي وصف أهل الإيمان يقول - تعالى -: \"وَأَمرُهُم شُورَى بَينَهُم\" (الشورى: من الآية38).
ولا يعني هذا أن يستشير جميع من تحته بل يختار منهم من هو أهل للاستشارة، ويدل على هذا حديث ميمون بن مهران أن أبا بكر الصديق كان إذا ورد عليه أمر ولم يجده في الكتاب والسنة دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم وكان عمر يفعل ذلك(12). وقال ابن عباس: كان القراء- يعني أهل العلم- أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شبانا(13).
وقد ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما- قصة قدوم عمر للشام، وأنه لما أخبر بوقوع الطاعون بها دعا المهاجرين الأولين فاستشارهم.. \"(14).
ولما بعث عمر -رضي الله عنه- جيشاً إلى العراق وأمر عليهم أبا عبيدة الثقفي أمره أن يستشير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يستشير سليط بن قيس فإنه رجل باشر الحروب\"(15).
وقال ابن المعتز: من أكثر المشورة لم يعدم عند الصواب مادحا وعند الخطأ عاذرا(16).
وعليه أن يستخدم الأسلوب الأمثل في المشورةº فقد ذكر الجهشاري أن سابور ذا الأكتاف وهو من ملوك الفرس استشار وزيرين كانا له في أمر من أموره، فقال أحدهما: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحدا إلا خاليا فإنه أموت للسر وأحزم في الرأي وأدعى إلى السلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض، لأن الواحد رهن بما أُفضي إليه وهو أحرى ألا يظهره رهبة للملك ورغبة إليه، وإذا كان عند اثنين مظهرº دخلت على الملك الشبهة واتسعت على الرجلين المعاريض، فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم وإن عفا عنهما عفا عن واحد لا ذنب له وعن الآخر والحجة عليه(17).
وعليه أن يقصد الكبار وذوي الخبرة في الاستشارة، قال علي -رضي الله عنه-: (رأي الشيخ خير من مشهد الغلام)(18). وقد يكون عند صغار السن ما لا عند غيرهم لحدة عقولهم، وقد كان ابن شهاب الزهري - رحمه الله - يشجع الصغار، ويقول: \"لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم\"(19).
18-أن يكون منتهزا للفرص عند تيسرها، قال الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها * * * فعقبى كل عاصفة سكون
ولا تغفل تداركها سريعا * * * فما تدري السكون متى يكون(20)
وقال الآخر:
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة * * * وإن لم تكن لي فرصة فجبان(21)
19-أن يفتح صدره قبل بابه لمن هم تحت ولايته ليرفعوا تظلماتهم واقتراحاتهم، وتسمى في العرف الإداري: \"سياسة الباب المفتوح\" ولا يعنينا الاسم بقدر ما يعنينا أن إغلاق الباب متوعد عليه في حديث عمرو بن مرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته)(22).
20- أن يصارح من تحته ببعض سياساته إذا فهمت بشكل خاطئ، ويدل عليه خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأنصار بعد توزيع غنائم حنين وأنه أعطى أناسا من الغنائم ليتألفهم على الإسلام(23)، ومثله ما كتبه عمر إلى أهل الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة ولكن الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع\"(24).
21-ومنها أن يحسن الاستماع والإنصات للآخرين، ولما عاب المنافقون النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يستمع لكل أحد ولو كان من عامة الناس أنزل الله - عز وجل - قوله - تعالى -: \"وَمِنهُمُ الَّذِينَ يُؤذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُل أُذُنُ خَيرٍ, لَكُم يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤمِنُ لِلمُؤمِنِينَ وَرَحمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم... \" (التوبة: من الآية61). ففن الاستماع من صفات القائد الناجح.
22-أن يتعامل مع من تحته بحسب مقدارهم وشرفهم وتدينهم، فقد كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: بلغني أنك تأذن للناس جما غفيرا، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة\"(25).
وقد ذكر بعض من ألف في آداب الملوك والقادة أن على من تصدر لقيادة الناس وسياستهم أن يعرف أنسابهم ليكون تعامله معهم على حسب أنسابهم وشرفهم فمن ذلك ما قاله أردشير (ملك اصطخر): الناس ثلاث طبقات تجب سياستهم في ثلاث سياسات:
• منهم طبقة من الخواص الأعيان تسوسهم بمحض اللطف والإحسان.
• وطبقة من العوام الأوساط تسوسهم من العنف واللطف ما بين الإفراط والاقتصاد.
• وطبقة من العوام والأطراف تسوسهم بمحض الغلظة والاعتساف(26).
23-ألا ينصاع لاستفزازات المرؤوسين بالاضطرابات العمالية مثلاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: \"إن على ولي الأمر أن يجبر أرباب الحرف والصناعات على العمل لمصالح الشعب... فإذا امتنع الخباز مثلا عن الخبز حتى يتضرر الناس أُلزم بصنعتها\"(27).
24-ألا يتهاون في استخدام المرؤوسين للأموال العامة، فقد مر حماد بن زيد عندما كان صغيرا هو وأبوه على جدار فيه تبن فأخذ حماد عود تبن، فنهره أبوه وقال: لماذا؟ فقال حماد: يا أبتاه إنه عود تبن، فقال الأب: لو أخذ كل مارٍّ, عود تبن هل يبقى في الجدار شيء؟ (28).
25-أن لا يغفل عن الجولات التفتيشية فقد كتب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى يزيد بن أبي سفيان -رضي الله عنه- في مسيره بالجيش لقتال الروم قال: \"وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه فأدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة فإنها أيسرهما لقربها من النهار\"(29).
26- أن يحرص على جودة العمل أكثر من حرصه على سرعة إنهائه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إن الله - تعالى - يحب من العامل إذا عمل أن يحسن\"(30)، وقد ذكر ابن هذيل في كتابه (عين الأدب والسياسة) عن بعض السلف أنه قال: لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده فإن الناس لا يسألون في كم فرغ منه وإنما يسألون عن جودة صنيعه(31).
27- أن يعالج المشاكل بالأيسر فالأيسر ويستعمل معهم سياسة \" شعرة معاوية \"، قال معاوية - رضي الله عنه-: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا سوطي حيث يكفيني لساني ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قالوا: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت إذا أرخوها مددتها وإذا مدٌّوها جررتها (32).
28- أن يعجل مكافأة المحسن ويؤجل عقوبة العاصي وأن يتأنى في أموره، وقد ذكرت بعض كتب التراث عن أحد ملوك الفرس الحكماء وهو أردشير أنه قال: على الملك أن يأخذ نفسه بثلاث:
• تعجيل مكافأة المحسن على إحسانه فإن في ذلك شحذ الضمائر على الطاعة.
• وتأجيل عقوبة العاصي على عصيانه، فإن في ذلك إمكان العفو والإقالة ومراجعة التوبة والندامة.
• والأناة عند طوارق الدهر وحدثانه، فإن في ذلك انفساح مذاهب الرأي والسياسة وإيضاح غوامض السداد والإصابة(33).
وقال بعض الحكماء: لا تغفل مكافأة من يعتقد لك الوفاء ويناضل عنك الأعداء فمن حرمته مكافأة مثله زهد في معاودة فعله(34).
29-أن يحدد أركان التفويض عند إرادته لذلك، قال تعالى: \"وَوَاعَدنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيلَةً وَأَتمَمنَاهَا بِعَشرٍ, فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَربَعِينَ لَيلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخلُفنِي فِي قَومِي وَأَصلِح وَلا تَتَّبِع سَبِيلَ المُفسِدِينَ\" (الأعراف: 142). فقد حدد موسى أركان التفويض، وهي:
• الشخص المفوض له بالاسم.
• موضوع التفويض، وهو خلافته في قومه.
• تحديد الصلاحيات في قوله: \"وَأَصلِح وَلا تَتَّبِع سَبِيلَ المُفسِدِينَ\" (الأعراف: من الآية142).
• تحديد مدة التفويض بأربعين ليلة.
30- من الأفضل ألا يطيل في المنصب القيادي حتى تتجدد الدماء، وهو ما يطلق عليه الآن بضرورة تداول المنصب، وتحديدها بفترة معينة، وقد قال أبو حنيفة - رحمه الله - بضرورة توقيت ولاية القضاء بسنة لسببين:
• حتى لا ينشغل عن تحصيل العلم.
• وحتى لا يتعرض للفتنة والغرور(36).
وفي الختام، أسأل الله أن ينفع بهذا الجهد والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------------------------------
(1) مفتاح السعادة / لطاش كبري زادة 145.
(2) وزير المأمون، توفي سنة 230هـ.
(3) عيون الأخبار 7/112، تهذيب الرياسة /230 والكلمة ليست على إطلاقها.
(4) مختصر مسلم(1225).
(5) تهذيب الرياسة /121، شرح نهج البلاغة 3/32، ونسبه في الدرر السنية إلى بعض الحكماء 7/383.
(6) رواه البيهقي في الكبرى 8/167، سير أعلام النبلاء 3/232، تهذيب الرياسة /157.
(7) نهاية الأرب 6/15، يتيمة الدهر 4/305، تهذيب الرياسة /155.
(8) عيون الأخبار 1/22، نهاية الأرب 6/15، العقد الفريد 2/260، تهذيب الرياسة /153.
(9) نهاية الأرب 6/15، التمثيل والمحاضرة، تهذيب الرياسة /153.
(10) التبر المسبوك /85، مجمع الأمثال /467، تهذيب الرياسة /158 البداية والنهاية 15/352 طبعة دار هجر ونسبه ابن كثير وابن الجوزي في المنتظم 14/232 لأبي الفتح البستي وهو في ديوانه/106.
(11) آل عمران/159.
(12) رواه البيهقي بسند صحيح كما في فتح الباري 13/342.
(13) رواه البخاري(7286)
(14) رواه البخاري(5729).
(15) البداية والنهاية 7/26.
(16) آداب ابن المعتز /99، تهذيب الرياسة /185.
(17) الوزراء والكتاب للجهشاري /11.
(18) رواه البيهقي في السنن الكبرى 10/113، تهذيب الرياسة /188.
(19) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله /1/85.
(20) نهاية الأرب 6/138، تهذيب الرياسة /224.
(21) مروج الذهب 2/14 ونسبه للقطامي، وتهذيب الرياسة للقلعي /242 ولم ينسبه.
(22) رواه أحمد والترمذي كما في الصحيحة للألباني (629) وصححه الألباني.
(23) رواه البخاري(4331) عن أنس - رضي الله عنه -.
(24) البداية والنهاية 7/81.
(25) مجلة الاتصالات السعودية-34، قيم المديرين وأخلاقياتهم للدكتور إبراهيم الغفيلي.
(26) تهذيب الرياسة للقلعي /121 ونهاية الإرب 6/44. ولا يؤخذ كلامه على الإطلاق.
(27) رسالة الحسبة /32.
(28) ترجمة حماد بن زيد من سير أعلام النبلاء.
(29) الكامل لابن الأثير 2/276.
(30) حسنه الألباني في صحيح الجامع/1887.
(31) مجلة الاتصالات السعودية-34، قيم المديرين وأخلاقياتهم للدكتور إبراهيم الغفيلي.
(32) عيون الأخبار 1/9، بهجة المجالس 1/345، العقد الفريد 1/18، وتهذيب الرياسة /131.
(33) بهجة المجالس 1/338، نهاية الأرب 6/5، شرح نهج البلاغة 4/537، تهذيب الرياسة /122.
(34) تهذيب الرياسة /172، الأمثال للثعالبي /47.
(35) لسان الحكم لابن الشحنة /4.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد